للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقد كان فيمن حاولوا إسقاط شوقي من هو أوسع منه اطلاعًا على آداب الأمم، وأبصر بأغراض الشعر وحقيقته، وكان مع ذلك حاسدًا شانئًا قد ثقب في قلبه الحقد؛ والحاسد المبغض هو في اتساع الكلام وطغيان العبارة أخو المحب العاشق؛ فكلاهما يدور الدم في كبده معاني ووساوس، وكلاهما يجري كلامه على أصل مما في سريرته، فلا تجد أحدهما إلا عاليًا بمن يحب، ولا تجد الآخر إلا نازلًا نازلًا بمن يبغض؛ وكان هذا الناقد شاعرًا، فانضاف شعره إلى حسده، إلى بغضه، إلى ذكائه، إلى اطلاعه، إلى جهده، إلى طول الوقت وتراخي الزمن؛ وهذه كلها مفرقات نفسية.. بعضها أشد من بعض كالبارود، إلى الديناميت، إلى الميلينيت؛ ولكن شوقي كان في مرتقى لم يبلغه الناقد، فانقلب جهد هذا عجزًا، وأصبح البارود والتراب في يده بمعنى واحد١..

ومن أعجب ما عجبت له من أمر هذا الناقد، أني رأيته يقرر لناس صواب الحقيقة بزعمه، فإذا هو يقرر غلطه وجهله وتعسفه؛ وهو في كل ما يكتب عن شوقي يكون كالذي يرى الماء العذاب وعمله في إنبات الروض وتوشيته وتلوينه، فيذهب يعيبه للناس بأنه ليس هو البنزين ... الذي يحرك السيارات والطيارات!

تناول شوقي بعد موته فجرده من الشخصية، أي من حاسة الشعر، ومن إدراك السر لا يخلق الشاعر الحق إلا لإدراكه والكشف عن حقائقه؛ وكان فيما استدل به على ذلك أن لا يحسن وصف الربيع بمثل ما وصفه ابن الرومي في قوله:

تجد الوحوش بها كفايتها ... والطير فيه عتيدة الطعم

فظباؤه تضحى بمنتطح ... وحمامه يضحى بمختصم

وزعم أن ابن الرومي قد ولد بحاسة لم يولد بها شوقي، ولهذه الحاسة اندمج في الطبيعة فأدرك سر الربيع، وأنه غليان الحياة في الأحياء، فالظباء تنتطح من الأشر ... الخ الخ وبنى على ذلك ناطحة سحاب.. لا ناطحة ظباء*.

أما شوقي الشاعر الضعيف العاجز لم يولد بمثل تلك الحاسة، فلو أنه شهد ألف ربيع لما أحس هذا الإحساس، ولا استطاع أن يجيء هذا القول المعجزة؛ وكل ذلك من هذا الناقد جهل في جهل في جهل، وأعاليل بأضاليل بأباطيل؛ فابن


١ أحسبه يعني العقاد.
* لا يحضرني كلام الكاتب بنصه، ولكن هذا بعض معناه، وكله تهويل.

<<  <  ج: ص:  >  >>