للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إذا أخذت في الصوت كاد جليسها ... يطير إليها قلبه حين تنظر

وأديته على ما كان يستحسنه عبد الرحمن ويطرب له، إذ يسمع فيه همسًا من بكائي، ولهفة مما أجد به، وحسرة على أنه ينسكب في قلبي وهو يصد عني ويتحاماني، وما غنيت: "وهل أنت عن سلامة اليوم مقصر" إلا في صوت تنوح به سلامة على نفسها, وتندب وتتفجع!

فقال لي يزيد وقد فضحت نفسي عنده فضيحة مكشوفة: يا حبيبتي, من قائل هذا الشعر؟

قلت: أحدثك بالقصة يا أمير المؤمنين؟

قال: حدثيني.

قلت: هو عبد الرحمن بن أبي عمار الذي يلقبونه بالقس لعبادته ونسكه، وهو في المدينة يشبه عطاء بن أبي رباح، وكان صديقًا لمولاي سهيل، فمر بدارنا يومًا وأنا أغني فوقف يسمع، ودخل علينا "الأحوص"١، فقال: ويحكم! لكأن الملائكة والله تتلو مزاميرها بحلق سلامة، فهذا عبد الرحمن القس قد شُغل بما يسمع منها، وهو واقف خارج الدار، فتسارع مولاي فخرج إليه ودعاه إلى أن يدخل فيسمع مني، فأبى! فقال له: أما علمت أن عبد الله بن جعفر، وهو من هو في محله وبيته وعلمه قد مشى إلى جميلة أستاذة سلامة حين علم أنها آلت ألِيَّة ألا تغني أحدًا إلا في منزلها؛ فجاءها فسمع منها، وقد هيأت له مجلسها، وجعلت على رءوس جواريها شعورًا مسدلة كالعناقيد، وألبستهن أنواع الثياب المصبغة، ووضعت فوق الشعور التيجان، وزينتهن بأنواع الحلى، وقامت هي على رأسه، وقام الجواري صفين بين يديه، حتى أقسم عليها فجلست غير بعيد، وأمرت الجواري فجلسن، ومع كل جارية عودها؛ ثم ضربن جميعًا وغنت عليهن، وغنى الجواري على غنائها، فقال عبد الله: ما ظننت أن مثل هذا يكون!

وأنا أُقعدك في مكان تسمع من سلامة ولا تراها، إن كنتَ عند نفسك بالمنزلة التي لم يبلغها عبد الله بن جعفر!

قالت سلامة: وكانت هذه والله -يا أمير المؤمنين- رقية من رقى إبليس؛ فقال عبد الرحمن: أما هذا فنعم. ودخل الدار وجلس حيث يسمع، ثم أمرني مولاي فخرجت إليه خروج القمر مشبوبًا من سحابه كانت تغطيه؛ فأما هو فما رآني


١ هو الأحوص, الشاعر المعروف.

<<  <  ج: ص:  >  >>