للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حتى علقت بقلبه، وسبح طويلًا طويلًا؛ وأما أنا فما رأيته حتى رأيت الجنة والملائكة، ومُتُّ عن الدنيا وانتقلت إليه وحده.

قالت سلامة: وافتضحت مرة أخرى، فتنحنح يزيد, فضحكت وقلت: يا أمير المؤمنين، أحدثك أم حسبك؟ قال: حدثيني ويحك! فوالله لو كنتِ في الجنة كما أنتِ لأعدتِ قصة آدم مع واحد واحد من أهلها حتى يُطردوا جميعًا من حسنها إلى حسنك! فما فعل القس ويحك؟

قلت: يا أمير المؤمنين، إنه يدعى القس قبل أن يهواني.

فقال يزيد: وهل عجب وقد فتنته أن يطرده "البطريق"؟

قلت: بل العجب وقد فتنتُه أن يصير هو البطريق!

فضحك يزيد وقال: إيه، ما أحسب الرجل إلا قد دهي منك بداهية! فحدثيني فقد رفعت الغيرة؛ إني والله ما أرى هذا الرجل في أمره وأمرك إلا كالفحل من الإبل، قد تُرك من الركوب والعمل، ونعم وسمن للفحلة فَنَدَّ يومًا, فذهب على وجهه، فأقحم في مفازة، وأصاب مَرْتَعًا فتوحش واستأسد، وتبين عليه أثر وحشيته، وأقبل قبال الجن من قوة ونشاط ويأس شديد؛ فلما طال انفراده وتأبده عرضت له في البر ناقة كانت قد ندت من عَطنها، وكانت فارهة جسيمة قد انتهت سمنًا، وغطاها الشحم واللحم، فرآها البازل الصئول، فهاج وصال وهدر، يخبط بيده ورجله، ويُسمَع لجوفه دَوِيّ من الغليان، وإذا هي قد ألقت نفسها بين يديه!

أما والله لو جعل الشيطان في يمينه رجلًا فحلًا قويًّا جميلًا، وفي شماله امرأة جميلة عاشقة تهواه؛ ثم تمطى متدافعًا ومد ذراعيه فابتعدا؛ ثم تراجع متداخلًا وضم ذراعيه فالتقيا؛ لكان هذا شأن ما بينك وبين القس!

قلت: لا والله يا أمير المؤمنين؛ ما كان صاحبي في الرجال خَلًّا ولا خمرًا، وما كان الفحل إلا الناقة! وما أحسب الشيطان يعرف هذا الرجل، وهل كان للشيطان عمل مع رجل يقول: إني أعرف دائمًا فكرتي وهي دائمًا فكرتي لا تتغير. ذاك رجل أساسه كما يقول: {بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: ٢٤] ولقد تصنعتُ له مرة يا أمير المؤمنين، وتشكلت وتحليت وتبرجت، وحدثت نفسي منه بكثير، وقلت: إنه رجل قد غبر شبابه في وجود فارغ من المرأة، ثم وجد المرأة فيَّ وحدي. وغنيته يا أمير المؤمنين غناء جوارحي كلها، وكنت له كأني خرير ناعم يترجرج ويُنشَر

<<  <  ج: ص:  >  >>