كانت مكة نفسها جارية في حكمهم، ولكن أنسيت هذه الكلمة؛ إذ لم أرتبطها، وإذ كنت لا أرى هذا المذهب ولا أحسن أن أقول فيه قولًا، وأعد كل ما يقال فيه من باب تلفيق الأدلة، كأنه ذئب ذلك الأعرابي الذي يريد أن يجعل في الناس منه مثل غرائز الغنم ... فيقول:"إلا تره تظنه".
والدكتور صروف رجل مالي في المال وفي اللغة جميعًا. فمذهبه القصد في الدلالة والقصد في الوقت والقصد في القوة، وقد صرفته ثلاثتها عن الشعر وعما كان في حكمه من تحبير النثر وتوشيته، على أنه يحسنهما لو أراد ولو سخت نفسه بالوقت ينفقه ولا يتعرف قدر ما مضى منه في هذه الساعات، بل في ساعة الكون الكبرى التي يتعاقب فيها عقربا النهار والليل، كما كان ينفق البارودي يومًا في بيت أو بيتين.
وكان شيخنا في آخر مجالسي معه قبل وفاته بشهر أو نحوه، أطلعني على كل ما نشره في مجلدات "المقتطف" من شعره، فأعجبت بأشياء منه، وأشرت على صديقنا الأستاذ فؤاد صروف أن يعيد نشر قصيدة الرقاش التي ترجمها الدكتور عن الإنجليزية في نسق سلس موشح القوافي، والتي يقول فيها صاحبها يصف مخازي المدنية:
مخازٍ توالت فصالت وصارت ... على الحلم دودًا وفي العظم سوسا
وسألني الدكتور بعد أن فرغت من شعره: في أي طبقة تعدني من شعرائهم؟ ففكرت قليلًا ثم قلت له: في طبقة الدكتور صروف!. فضحك لها كثيرًا.
وكانت له آراء في الشعر العربي غير بعضها في آخر عهده، ومما قاله لي مرة: إن الذي يريد أن يخلد ذكره في هذا الشرق فلا ينسى، لا ينبغي له أن يطمع في هذا إلا إذا بنى هرمًا كهرم الجيزة!. وهي كلمة فلسفية كبيرة تنطوي على شرح طويل يعرفه من يعرفه.
وقد كادت قاعدة القصد التي أومأت إليها تنتهي به في آخر مدته إلى القول بإسقاط الإعراب بتة، وأظن ذلك خاطرًا سنح له فأخذ بأوله وترك أن ينظر في أعقابه، فزرته مرة في شهر يناير لسنة ١٩٢٧، وكان يصحح تسويده جواب كتبه عن سؤال ورد عليه في هل يمكن الرجوع إلى اللغة الفصحى في القراءة والتكلم، وما الفائدة من ذلك؟ فلما أمر بالجواب على نظره دفعه إلي فقرأته، فإذا هو يرى أن كل حركة من حركات الإعراب والبناء يتهور فيها وقت ما؛ قال: فإذا قضينا