أطولهم جهادًا وأكثرهم عملًا وأظهرهم أثرًا؛ وكان المقتطف يجيء لها كل شهر كأنه قطعة زمنية مسلطة بناموس كناموس النشوء، حتى لألم هذا المقتطف أن يكون عصرًا من العصور قد خرج في شكل الكتابة؛ ولقد كاشفني الدكتور في آخر أيامه أنه كان يود لو ختم عمله بوضع معجم في اللغة يصلح أن يقال فيه إنه معجم الشعب، وفصل لي طريقته؛ إذ كنت أكلمه في كتاب لغوي افتتحت العمل فيه من زمن ولا يعرف أحد من أمره خبرًا١ فقال لي: خذ بين طريقتي وطريقتك، وامض أنت في هذا العمل؛ فإني لو وجدت فراغًا لما عدلت بهذا الأثر شيئًا، وما كل سهل هو سهل..
على أن شيخنا هذا لو قد كان تفرغ للغة وتوفر عليها واجتمع لها بذلك العمر وتلك العلوم والأدوات، لكان فيها بأمة من الأشياخ الماضين من لدن أبي عمرو بن العلاء إلى الدكتور يعقوب صروف، ولكن لعل الدهر أضيق من أن يتسع أو هو أوسع من أن يضيق ... لإمام آخر كأبي علي الفارسي، يفرغ سبعين سنة لفرع واحد من علوم اللغة هو علم القياس والاشتقاق والعلل الصرفية ويجعله همه وسدسه على ما قال تلميذه ابن جني:"لا يعتاقه عنه ولد، ولا يعارضه فيه متجر، ولا يسوم به مطلبًا، ولا يخدم به رئيسًا؛ فكأنه إنما كان مخلوقًا له".
وكانت للدكتور طريقة جريئة في رد الألفاظ العربية إلى أصولها والرجوع بها إلى أسباب أخذها واشتقاقها وتصاريفها من لغة إلى لغة، وأعانه على ذلك ثقوب فكره وسعة علمه ودقة تمييزه وميله الغالب عليه في تحقيق ناموس النشوء وتبين آثاره في هذه المخلوقات المعنوية المسماة بالألفاظ؛ وكان معجبًا بكل ما جاءه من هذا الباب ولو كان من خطأ؛ لأنه إلى الرأي يقصد وللطريقة يمكن ومع الحاضر يجري.
وهذا باب يحتاج إلى التسمح والتساهل؛ إذ لا يمكن تحقيقه، ولا تتفق الحيطة فيه، وليس إلا أن يتلوح شيء منه ويسنح شيء وتتلامح علة ويعرض سبب؛ ثم هو في الدكتور من بعض الدلالة على استحكام ملكة الوضع فيه، ونزعه إلى أن يقتاس بقياسه ويستخرج من علله؛ وقد تراه يبعد في ذلك فينصب لك الدليل من وراء بضعة آلاف سنة، وأنا الساعة أعان ذاكرتي وأديرها من ههنا وههنا لأجد، كلمة، قال لي مرة في تاريخها: إن العرب أخذوها عن اليونان حين
١ أحسبه يعني المعجم الذي كان يعاون فيه صديقه المرحوم أحمد زكي باشا، وانظر ص٢٦٢ "حياة الرافعي".