كالعلماء، غير أنها لا تمجه كالطلبة؛ وكان في يده مجلد ضخم لو نطق لقال له: دعني لمن هو أسن منك! فما قدرته يزن عشرين مجلدًا من مثله، ونظر إلي نظرة كأني لا أزال أراها في عينه إلى الساعة، فسلمت عليه فقال: أين الشيخ؟ يعني -الوالد- قلت: خرج آنفًا؛ قال: فادفع إليه هذا الكتاب، وقل له جاء به الخضري.
ثم أغلقت الباب وانتحيت جانبًا وفتحت المجلد، فإذا هو جزء من التفسير الكبير للفخر الرازي، كان قد استعاره من مكتبتنا؛ وعرفت الشيخ من يومئذ، وكان أستاذًا للعربية في مدرسة الصنائع، يضع كتاب النحو والصرف مع المطرقة والمنشار والقدوم، فيذهب شيء في شيء، وكأنه لا يعلم شيئًا؛ وقلما كنا نذكره في مدرستنا إذ كان لنا شيخ فحل ثقة من رجال الأزهر، غير أن الخضري كان له موضع في كل مجلس، وكان يداخل قومًا من الخاصة يعنون بالمسائل الإسلامية وفلسفتها وتقريبها من العامة والدهماء، وبإشارة من بعض هؤلاء وضع أول كتبه:"نور اليقين في سيرة سيد المرسلين"، ويكاد هذا الاسم يدل على وزن الأستاذ في أول عهده، وأنه لا يزال وراء السجعة الآتية من القرون الأخيرة لم يمض على وجه ولم يعرف بمذهب.
إن الذي يريد أن يقول قولًا صحيحًا في هذا الفقيه العالم المؤرخ الأديب المربي، يجب أن يرجع بتياره إلى منبعه مبلغ انبعاثه وقوة جريته ومد عبابه؛ فما كان الخضري شيئًا قبل أن يتعلق بمدار ذلك النجم الإنساني العظيم الذي أهدته السماء إلى الأرض وسمى في أسمائها "محمد عبده"، لقد أخرجته دار العلوم كما أخرجت الكثيرين؛ ولكن دار علومه الكبرى كانت أخلاق الأستاذ الإمام وشمائله وآراءه وبلاغته وهمة نفسه. ألا أنه لا بد من رجل واحد يكون هو الواحد الذي يبدأ منه العدد في كل عصر، وأنت فكيف تأملت الخضري فاعلم أنك بإزاء معنى من معاني الشيخ محمد عبده، على فرق ما بين النفسين، بل أنت من الخضري كأنك ترى الشيخ ساريًا في مظهر من مظاهر الزمن.
كان يحضر دروس الشيخ، ويختلف إلى ناديه، ويناقله بعض الرأي، ويعارض معه بعض الكتب التي كان يرجع إلى الشيخ في تصحيحها أو الإشراف على طبعها، فنفذ الشيخ إلى نفسه ووجد السبيل إلى الاستقرار فيها، فهو من بعد حريص على وقته، مجد في عمله، دائب على طريقه، آخذًا بالأخلاق الفاضلة، مصلح مرب غيور، وكل ذلك في سمت وهيبة، وجزالة رأي، وشرف همة، وإخلاص حق الإخلاص؛ وما أرى فوضى عصرنا هذا وانحطاطه وإسفافه وسخافة قولهم: جديد