للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فكان تقديم "جدًّا" تقريظًا، و"كويس" تقريظًا آخر؛ وهو يقول هذا على حين كان بعض إخوانه الشيوخ يكاد يموت غمًّا بهذا الكتاب وما كتب عنه، وعلى حين كلمني بعضهم مرتين في ترك هذا العمل ونفض يدي منه؛ لأنه -زعم- عمل شاقٌّ بلا فائدة..

وقد زرت الأستاذ الخضري في وزارة المعارف في السنة الماضية، فبعد أن جلست إلى جانبه نهض مرة ثانية وجعل يثبتني بقوة في الكرسي، كأنه لم يطمئن بعد إلى أني جلست، ثم فاض بكلام كثير، فكان فيما قاله: "أنا الآن أعيش في غير زمني"، وكأنما كان ينعي إلي نفسه بهذه الكلمة من حيث لا يدري ولا أدري، وقال لي: إنه يجلس إلى مكتبة في كل يوم ست ساعات، يقرأ ويؤلف أو ينسخ؛ لأن كل كتبه المخطوطة هو ناقلها وناسخها ومصححها، وأنه يتلو كل يوم أربعة أجزاء من القرآن الكريم. قال: ولا يعتريه البرد ولا مرض من أمراضه، لما اعتاد من رياضة صدره بهذه التلاوة، وقال: إن كل ما هو فيه إنما هو من بركة القرآن.

ولنمسك عند هذا الحد؛ فإن للذكرى غمزًا على القلب، وبالجملة فقد كان -رحمه الله- عالمًا كالكُتَّاب، وكاتبًا كالعلماء؛ فهو من هؤلاء وأولئك يلف الطبقتين، وهو وحده منزلة بين المنزلتين؛ وبذلك تميز وظهر، فإنه في إحدى الجهتين عقل جريء تمده رواية واسعة في علوم مختلفة، فنراه يبعث من عقله الحياة إلى الماضي حتى كأنه لم يمض، وهو في الجهة الأخرى علم مستفيض لا يقف عند حد الصحيفة أو الكتاب، بل لا يزال يلتمس له عقلًا يخرجه ويتصرف به، حتى يكبر عن أن يكون قديمًا بحتًا فينتظم الحاضر إلى ماضيه ويطلقهما إطلاقًا واحدًا.. لم يكن الشيخ جديدًا إلا بالقديم، ولا قديمًا إلا بالجديد؛ فإننا لا نعرف قديمًا محضًا ولا جديدًا صرفًا، ولا نقيم وزن أحدهما إلا بوزن من الآخر إذا أردنا بهما سنة الحياة؛ وأنت لن تجد حيًّا منقطعًا مما وراءه، بل أنت ترى الطبيعة قيدت كل حي جديد إلى أصلين من القديم لا أصل واحد هما أبواه فمنهما يأتي ومنهما يستمد وهُمَا أبدًا فيه وإن كان على حدة؛ وبعد، فلو جاريت السخافة العصرية المشهورة لقلت: إن المذهب القديم.. قد انهد ركن من أركانه، ونقص قنطار كتب من ميزانه؛ ولكن هذه السخافة في رأيي كما ترى من جماعة ائتلوا أن يطفئوا نجمًا في السماء؛ لأنه قديم، فاتفقوا على ذلك وأجمعوه بينهم وفرغوا من أمره، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون كيف يهيئون العربات والمضخات التي تحمل إلى السماء بضعة أبحر ليصبوها على النجم ...

<<  <  ج: ص:  >  >>