أحيانًا شعرًا لا يكون في صناعة الشعر ولا في طبقات النظم أضعف ولا أبرد منه. ولا أدل على فساد الذوق الشعري، ولكنه على ذلك الأصل الذي أومأنا إليه يعد كلامًا صالحًا للنشر، وإن يكن صالحًا للشعر.
وهكذا أصبحت العامية في تمكنها تجعل من الغفلة حذقًا تجاريًّا، ومن السقوط علوًا فلسفيًّا، ومن الركاكة بلاغة صحفية، ومتى تغير معنى الحذق، ودخلته الإباحة، ووقع فيه التأويل، وأحيط بالتمويه والشبه فالريبة حينئذ أخت الثقة، والعجز باب من الاستطاعة، والضعف معنى من التمكين، وكل ما لا يقوم فيه عذر صحيح كان هو بطبيعة التلفيق عذر نفسه.
وأكثر ما تنشره الصحف من الشعر هو في رأيي صناعة احتطاب من الكلام.. وقد بطل التعب إلا تعب التقشش والحمل، فلم تعد هناك صناعة نفسية في وشي الكلام، ولا طبع موسيقي في نظم اللغة، ولا طريقة فكرية في سبك المعاني، وبهذه العامية الثقيلة أخذ الشعر يزول عن نهجه، ويضل عن سبيله، ووقع فيه التوغر السهل.. والاستكراه المحبوب.. وصرنا إلى ضرب حديث في الوحشية، هو الطرف المقابل للشعر الوحشي في أيام الجاهلية؛ فما دام الكلام غريبًا، والنظم قلقًا، والمأتي بعيدًا، والمعنى مستهلكًا، والنسج لا يستوي، والطريقة لا تتشابه فذلك كله مسخ وتشويه في الجملة وإن اختلفت الأسباب في التفصيل، وإذا كان المسخ جاهليًّا بالغريب من الألفاظ، والنافر من اللغات، والوحشي من المعاني؛ وكان عصريًّا بالركيك من الألفاظ، والنازل من التعبير، والهجين من الأساليب، والسخيف من المعاني؛ ثم بالسقط والخلط والاضطراب والتعقيد فهل بعض ذلك إلا من بعضه؟ وهل هو في الشعر الجميل إلا كسلخ الإنسان الذي مسخه الله فسلخه من معانٍ كان بها إنسانًا، ليضعه في معانٍ يصير بها قردًا أو خنزيرًا ليس عليه إلا ظاهر الشبه، وليس معه إلا بقية الأصل؟
فالقردية الشعرية، والخنزيرية الشعرية، متحققان في كثير من الشعر الذي ينشر بيننا، ولكن أصحاب هذا الشعر لا يرونهما إلا كمالًا في تطور الفن والعلم والفلسفة؛ وأنت متى ذهبت تحتج لزيغ الشعر من قبل الفلسفة، وتدفع عن ضعفه بحجة العلم، وتعتل لتصحيح فساده بالفن- فذلك عينه هو دليلنا نحن على أن هذا الشعر قردي خنزيري، لم يستو في تركيبه، ولم يأت على طبعه، ولم يخرج في صورته؛ وما يكون الدليل على الشعر من رأي ناظمه وافتتانه به ودفاعه عنه، ولكن من إحساس قارئه واهتزازه له وتأثره به.