والشاعر أبو الوفاء جيد الطريقة، حسن السبك، يقول على فكر وقريحة، ويرجع إلى طبع وسليقة، ولكن نفسه قلقة في موضعه الشعري من الحياة؛ وفي رأيي أن الشاعر لا يتم بأدبه ومواهبه حتى يكون تمامه بموضع نفسه الشعري الذي تضعه الحياة فيه؛ والكلام يطول في صفة هذا الموضع، ولكنه في الجملة كمنبت الزهرة: لا تزكو زكاءها ولا تبلغ مبلغها إلا في المكان الذي يصل عناصرها بعناصر الحياة وافية تامة، فلا يقطعها عن شيء ولا يرد شيئًا عنها؛ إذ هي بما في تركيبها وتهيئتها إنما تتم بموضعها ذاك لتهيئة وتركيبه، فإن كانت الزهرة على ما وصفنا، وإلا فما بد من مرض اللون، وهرم العطر، وهزال النضرة، وسقم الجمال.
ولولا أن الحكمة وفت الأستاذ أبا الوفا قسطه من الألم، ووهبته نفسًا متألمة حصرتها في أسباب ألَمِها حصرًا لا مفر منه -لفقدت زهرته عنصر تلوينها، ولخرج شعره نظمًا حائلًا مضطربًا منقطع الأسباب من الوحي؛ غير أن جهة الألم فيه هي هي جهة السماء إليه، ولو هو تكافأت جهاته المعنوية الأخرى، وأعطيت كل جهة حقها، وتخلصت مما يلابسها -لارتفع من مرتبة الألم إلى مرتبة الشعور بالغامض والمبهم، ولكان عقلًا من العقول الكبيرة المولدة التي يحيا فيها كل شيء حياة شعرية ذات حس.
ولكن ما دامت الحياة قد وزنت له بمقدار، وطفقت مع ذلك وبخست، فقد كان يحسن به أن يقصر شعره على أبواب الزفرة والدمعة واللهفة، أو انقطعت وسيلته إليه أن تبلغ؛ ويظهر لي أن أبا الوفا يحذو على حذو إسماعيل باشا صبري، وهو شبيه به في أنه لم تفتح له على الكون إلا نافذة واحدة؛ غير أن صبري أقبل على نافذته ونظر ما وسعه النظر، أما أبو الوفا فيحاول أن ينقب في الحائط ليجعلهما نافذتين.
أما أنه ليس من الشعر أن تنزل الحيرة الفلسفية عن منزلتها بين اليقين والعقل، أو المشهود والمحجب، أو الواقع والسبب، أو الرسم والمعنى -فتنقلب بين شعر القلب العاشق، وشعر الفكر المتأمل، شعر المعدة الجائعة، وتضع بين أشواق الكون شوقها هي إلى الطعام والثياب والمال..
على أنه كان الأمثل في التدبير، والأقرب إلى طريقة النفس الشاعرة أن يصرف أبو الوفا هذا الشعور المادي الذي يتلذع به، فيحوله فيجعله بابًا من حكمة السخر الشعري بالدنيا وأهلها وحوادثها، كما صرفه ابن الرومي من قبل فأخطأ في تحويله، فجعله مرة بابًا من المدح والنفاق، ومرة بابًا من الهجاء والإقذاع.