للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الخبر "بقيل أو يقال" فقد دل على أن هذا الخبر غير مقطوع به؛ إذ تسمى هذه الصيغة عندهم صيغة التمريض، فهي لا تفيد الصحة ولا الجزم بها، وظاهر أن أبا تمام لا يمكن أن يكون قد نشأ بمصر وبدمشق في وقت معًا.

وابن خلكان قد وقف على الكتاب الذي عمله الصولي في أخبار أبي تمام ونقل عنه، وهو المرجع في هذا الباب؛ فلا بد أن يكون هذا الكتاب قد خلا من تحقيق هذه الرواية، بل نحن نرجح أنه قد خلا منها بتة، فلم يذكر أن نشأة أبي تمام كانت بمصر؛ لأن صاحب الأغاني أغفلها ولم يشر إليها بحرف، مع أنه ينقل عن الصولي نفسه ويقول في كتابه: "أخبرني الصولي" وكانت أهملها صاحب مروج الذهب، وهو ينقل أيضًا عن الصولي، وهذا يثبت لنا أن الخبر لم يكن معروفًا يومئذ، وإلا هو التاريخ عند أبي الفرج والمسعودي إن لم يكن هو هذا؟

ولكن ذكرت الرواية في كتاب الأنباري "طبقات الأدباء"، واقتصر ناقلها على أن أبا تمام نشأ بمصر، وأنه كان يسقي الماء بها، ولم يذكر رواية عمله بدمشق؛ والأنباري متأخر توفي سنة٥٧٧، فهو بعد موت أبي تمام بثلاثة قرون ونصف، فلا قيمة لروايته، وشأنه شأن غيره من الناقلين؛ ونحن نرى أن هذه الرواية قد صنعت في مصر نفسها للغض من أبي تمام والزراية عليه، وبقيت مروية فيها ثم حملت كما تحمل كل رواية لذاتها لا لتحقيقها، سواء أكانت موجهة على الحق أم معدولًا بها عنه؛ ولا أوضع في المهنة من سقاية الماء في الجامع بالجرة، ولعمري ما ذكرت "الجرة" هنا عبثًا؛ والغلو في التحقير هو بعينه الدليل على الكذب، فهذه الكلمة كأثر المجرم في جريمته..

وبعد، فإنا نقرر أن هذا الشاعر العظيم لم ينشأ بمصر، وأنه ولد وتأدب في الشام ثم قدم إلى مصر شاعرًا ناشئًا يتكسب بأدبه كما قدم عليها غيره من الأندلس والمغرب والشام، والعراق، وأنه لم يأتِ إلى مصر إلا في ولاية عبد الله بن طاهر الأديب الشاعر القائد العظيم، وقد جعلت له ولاية مصر والشام والجزيرة في سنة ٢١٠ أو ٢١١ على خلاف بين المؤرخين، وكانت سن أبي تمام يومئذ بين ٢١ و٢٣ سنة؛ وقد كان ابن طاهر مغناطيسًا للشعراء في كل مكان ينزله، حتى قال فيه بعضهم وعزم على الهجرة إلى مصر:

يقول رجال إن مصر بعيدة ... وما بعدت مصر وفيها ابن طاهر

وأبعد من بمصر رجال نراهم ... بحضرتنا معروفهم غير ظاهر

عن الخير موتى ما تبالي أزرتهم ... على طمع أم زرت أهل المقابر

<<  <  ج: ص:  >  >>