وقد قصده أبو تمام إلى مصر، كما قصده بعد ذلك إلى خراسان في سنة٢٢٠، وهي السنة التي وضع فيها أبو تمام أو في التي تليها كتاب "الحماسة" كما حققناه ولا محل لذكره هنا.
ونحن نسوق أدلتنا على صحة ما ذهبنا إليه في نفي أن يكون أبو تمام قد نشأ بمصر أو جاءنا طفلًا، أو تكون منها طبيعته في الشعر، أو يكون لها أثر في عبقريته:
١- المجمع عليه بلا خلاف أن الشاعر ولد في الشام، وما دام كذا لقد قالت الطبيعة كلمتها في أصل نبوغه وعبقريته، فإن الأديب يولد ولا يصنع كما يقول الإنجليزي؛ وكل العلماء يعرفونه بالطائي! ولا يطعن في نسبه إلا من لا يحقق وهو نفسه يباهي بطائيته، وذلك كالشرح على كلمة الطبيعة في أسباب نبوغه الوراثية؛ وقد تنقل الرجل بين مصر والشام والعراق وخراسان وأرمينيا وغيرها، فما بلد أولى من بلد بأن يكون مثار عبقريته.
٢- إن الشاعر إنما يتكسب من شعره يمدح من يهتز له أو يعطي عليه، ولم يمدح أبو تمام أحدًا من أهل مصر؛ فإن كان مدح فيها عبد الله بن طاهر فإنما إليه قصد وله جاء؛ وابن طاهر ليس مصريًّا، وقد جاء إلى مصر ورجع منها قبل أن يحول عليه الحول، فلو أن نشأة هذا الشاعر كانت بمصر وتأدبه كان فيها لأصبنا له مدحًا كثيرًا في أعيانها وعلمائها؛ إذ هو متى قال الشعر لا يتكسب إلا منه؛ وفي ديوان الشاعر هجاء لابن الجلودي نظمه في مصر، ولكن ابن الجلودي ليس مصريًّا بل هو قائد من قواد المأمون، ولاه محاربة الزط سنة ٢٠٥، ثم أقدم بعد ذلك مصر، ثم ولي عليها في سنة ٢١٤؛ فكل المصرية في شعر أبي تمام هي في هجائه للشاعر المصري يوسف السراج، ولعلها في بعض مقاطيع أخرى من الغزل أو الوصف.
٣- ولد أبو تمام في سنة ١٨٨ أو١٩٠، ومن الثابت أنه كان بمصر في سنة ٢١٤، حين نظم قصيدته الدالية والنونية في رثاء عمير بن الوليد -وعمير هذا ليس مصريًّا، بل هو من خراسان، وكان بمصر عاملًا لأبي إسحاق المعتصم بن الرشيد فلو كان أبو تمام قد جاء إلى مصر طفلًا كما يقال لكانت مدة قوله الشعر فيها لا تقل عن عشر سنوات، مع أن كل ما نظمه وهو فيها لا يبلغ عشر قصائد؛ وهذا ديوانه بين أيدينا وإليه وحده المرجع في الدلالة على صاحبه.
٤- روى المرزباني في "الموشح" عن العباس بن خالد البرمكي قال: أول ما نبغ "أي قال الشعر" أبو تمام الطائي أتاني بدمشق يمدح محمد بن الجهم فكلمته