فيه فأذن له؛ فدخل عليه وأنشده، ثم خرج فأمر له بدراهم يسيرة، ثم قال: إن عاش هذا ليخرجن شاعرًا.
فهذا نص على أن الشاعر لم يكن يومئذ إلا في ابتداء الشعر، ولم يكن قد خرج شاعرًا بعد وكان شعره من الطبقة التي يثاب عليها "بدراهم يسيرة". وأبو تمام بعد ذلك هو نفسه الذي نثر عليه عبد الله بن طاهر ألف دينار فترفع أن يمسها وترك الخدم ينتهبونها، وكان ذلك سببًا في تغير ابن طاهر عليه.
٥- نقل ابن خلكان في ترجمة ديك الجن الشاعر الحمصي المشهور، عن عبد الله بن محمد بن عبد الملك الزبيدي قال: كنت جالسًا عند ديك الجن، "يعني بحمص" فدخل عليه حدث فأنشده شعرًا عمله، فأخرج ديك الجن من تحت مصلاه درجًا كبيرًا فيه كثير من شعره، فسلمه إليه وقال: يا فتى تكسب بهذا واستعن به على قولك. فلما خرج سألته عنه فقال: هذا فتى من أهل جاسم، يذكر أنه من طيء، يكنى أبا تمام، واسمه حبيب بن أوس، وفيه أدب وذكاء وله قريحة وطبع. فهذا نص آخر على أن أبا تمام كان يومئذ حدثًا -أي غلامًا- وكان لا يزال يطلب الأدب، وقد أعانه أستاذه بنسخ من قصائده يتخرج بها ويحذو عليها؛ فهو قد نشأ في الشام وتأدب فيها.
٦- نظم أبو تمام قصيدته اللامية:
أصبُّ بحميا كأسها مقتل العذل
يصف تقتير الرزق عليه بمصر وخيبة أمله الذي أمله من المال، وفي هذه القصيدة يحن إلى الشام ويستقي لها ويذكر أرض البقاعين وقرى الجولان التي نشأ فيها: ولا يحن الشاعر لأرض إلا إذا كان فيها حبه أو شبابه وأدبه، أما الطفولة فمنسية بآثارها؛ إذ لا آثار لها في النفس متى شب المرء إلا بعيدًا بعيدًا، وإنما الحنين لما تتعلق به الغريزة المميزة.
٧- في هذه القصيدة يقول أبو تمام يخاطب أحبابه:
عدتني عنكم مكرها غربة النوى ... لها وطر في أن تمر ولا تحلى
والنوى في لغة الشاعر هي رحيله للتكسب بشعره؛ ولما رجع عوف بن محلم الشيباني إلى وطنه بعد وفادته على عبد الله بن طاهر في خراسان؛ سئل عن حال فقال: رجعت من عند عبد الله بالغنى "والراحة من النوى"؛ ويؤيده قول أبي تمام في قصيدته تلك:
نأيت فلا مالًا حويت ولم أقم ... فأمتع، إذ فجعت بالمال والأهل