يعني أنه اغترب مكرهًا يطلب الكسب لا غير، ولا كسب للشاعر إلا من شعره، فهو بنص كلامه عن نفسه قدم إلى مصر شاعرًا يتكسب ويتعرض للغني كما يصنع غيره.
٨- في هذه القصيدة اللامية يقدم لنا أبو تمام -رحمه الله- دليلًا يأكل الأدلة، كأنما ألهم من وحي الغيب أننا سنحتاج إلى هذا الدليل يومًا لندفع به عنه؛ فهو يحن إلى حيبب له في الشام، ويقول: إن غربة النوى التي وصفها:
أنت بعد هجر من حبيب فحركت ... صبابة ما أبقى الصدود من الوصل
أخمسة أحوال مضت لمغيبه؟ ... وشهران بل يومان ثكل من الثكلِ
يعني أنه قال هذا الشعر وقد مضى على إقامته في مصر خمس سنوات، وكان قد جاء من الشام عاشقًا ذلك العشق الذي فيه "الصدود والوصل"، والطفل لا يحب مثل هذا الحب ولا يحن ذلك الحنين؛ فإذا كان الشاعر قدم إلى مصر في سنة٢١٠، كما رجحناه، وسنه بين٢١ و٢٣ سنة فيكون قد نظم هذه القصيدة في سنة ٢١٥، وعمره يومئذ بين ٢٦ و٢٨ سنة؛ فلو أن أبا تمام جاء من الشام طفلًا صغيرًا فكيف للطفل أن يقول مثل هذا الشعر بعد خمس سنوات؟ وما هجر الحبيب "وصبابة ما أبقى الصدود من الوصل"؟
٩- مدح شاعرنا محمد بن حسان الضبي بقصيدة نونية يذكر فيها تنقله في البلاد فقال فيها:
وما أظن النوى ترضى بما صنعت ... حتى تشافه بي أقصى خراسان!
فأنت ترى أنه جعل أهله بالشام، وجعل أصدقاءه بمصر؛ فلو أنه كان قد نشأ بها لجعل بها أهله؛ إذ لا ينشأ إلا مع أبيه وأمه، والبيت الثاني دليل منه هو على أنه لم ينزل بمصر مقيم ولا متوطنًا، بل متنقلًا كما نزل بغيرها.
١٠- تقول كتب الأدب في مدارس الحكومة: إن أبا تمام نقل إلى مصر صغيرًا فنشأ بها وقد بينا فساد ذلك، ثم خرج إلى مقر الخلافة فمدح المعتصم؛ وهذا غير صحيح؛ فإن أبا تمام خرج من مصر قبل أن يدخلها المأمون في سنة ٢١٦، حين جاءها وقتل بها عبدوس الفهري؛ فلو كان الشاعر يومئذ لمدح المأمون، وذكر هذه الواقعة، والمعتصم ولي الخلافة سنة ٢١٨، وديوان أبي تمام يثبت أنه في سنة ٢١٧، كان بالعراق، وقد مدح المأمون بقصيدته الميمية، وذكر في مدحه وقعة الروم، وهذه كانت في تلك السنة.