للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن طرق الاستدلال القرآني (١):

١ - الأقيسة الإضمارية: وهي الأقيسة التي تحذف فيها إحدى المقدمات مثل: " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له كن فيكون، الحق من ربك فلا تكن من الممترين " [آل عمران: ٥٩، ٦٠] لم تذكر فيه سوى مقدمة واحدة، وهي إثبات مماثلة آدم لعيسى، وطوى ما عداها وكان سياق الدليل هكذا: إن آدم خلق من غير أب كعيسى، فلو كان عيسى ابنا بسبب ذلك لكان آدم أولى؛ لكن آدم ليس ابنا باعترافكم، فعيسى ليس ابنا أيضا، وقد كان في حذفها طلاوة.

٢ - القصص: مثل قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه.

٣ - قياس الخلف: وهو الذي يتجه فيه إلى إثبات المطلوب بإبطال نقيضه مثل: " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فسبحان الله رب العرش عما تصفون " [الأنبياء: ٢٢].

٤ - السبر والتقسيم: حيث يذكر أقسام الموضوع المجادل فيه، ويبين أنه ليس من خواص واحد فيها ما يوجب الدعوى التي يدعيها الخصم.

٥ - التمثيل: وهو أن يقيس المستدل الأمر الذي يدعيه على أمر معروف، ويبين الجهة الجامعة بينهما.

يتبين أن القرآن يسلك في مجادلته سياسة جدلية بيانية يعالج بها أوضاع الخصوم، ويناقشهم مما يتناسب مع أحوالهم في مقام المجادلة ومثال ذلك قصة إبراهيم مع قومه. يطالب كل مجادل أن يكون جداله عن علم، كما أن الدعوة للحق يجب أن تكون بعلم، وقد ذم الله المجادلين بغير علم فقال: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله، له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق) [الحج: ٨ - ٩]. إن الأصل في الجدل القرآني أن يكون بالتي هي أحسن، وهو يستخدم الجدل كوسيلة من وسائل الإقناع بالحجة والبرهان في إثبات الحق وإزهاق الباطل، وعندما يستخدم القرآن في جدالة القسوة وتأنيب الخصم، فهذا لا يرجع إلى أسلوب الدعوة العام، ولكنه يرجع إلى أمور ذاتية تتعلق بالخصم المجادل؛ لأنه لم يصغ للحق، ولم يستخدم عقله، فيما يلقى إليه من بيان معزز بالبراهين والحجج، ولعل ذلك يفهم من الاستثناء في قوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم) [العنكبوت: ٤٦]. إن المظهر العام للجدل القرآني هو معاملة الخصوم بما يتناسب مع أحوالهم العلمية والاعتقادية، فكثيرا ما يكون جدل القرآن مع المشركين جدل هداية ودلالة، وقد يشتمل على تخطئة بعض مزاعمهم، بينما يكون جدل القرآن مع أهل الكتاب، جدل تخطئة وإلزام لأنهم على علم، أما الجدال القرآني مع المنافقين فتبدو عليه سمة الشدة والقسوة مصحوبا بالتهديد والوعيد (٢).


(١) محمد أبو زهرة، تاريخ الجدل، (مصر: دار الفكر العربي، ط ١، ١٩٣٤ م)، ص ٦٤ وما بعدها. (بتصرف يسير).
(٢) مرجع سابق: عبد السلام بنهروال، المنهج القرآني في الجدل والاستدلال.

<<  <   >  >>