قال الإمام: ظاهر هذا الاستثناء يوهم أنَّ ذلك القليل وقع لا بفضل الله ولا برحمته، ومعلوم أنَّ ذلك محال، فعند ذلك اختلف المفسرون فقيل: الاستثناء راجع إلى قوله (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي: لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا القليل.
قال الفراء والمبرد: والقول الأول أولى؛ لأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه والأكثر يجهله.
وقيل: الاستثناء متعلق بقوله (وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُم)؛ لأن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به أولى، وهذا القول لا يتمشى إلا إذا فسرنا الفضل والرحمة بشيء خاص وفيه وجهان:
الأول: وهو قول جماعة من المفسرين أنَّ المراد بفضل الله ورحمته: إنزال القرآن وبعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، المعنى: لولا بعثة الرسول وإنزال القرآن لاتبعتم الشيطان وكفرتم بالله إلا القليل منكم فإنهم ما تبعوا الشيطان وما كفروا مثل قس بن ساعدة وورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل.
والثاني: ما ذكره أبو مسلم أنَّ المراد بفضل الله ورحمته: النصرة والمعونة، المعنى: لولا حصول النصرة والظفر على سبيل التتابع لاتبعتم الشيطان وتركتم الدِّين إلا القليل وهم أهل البصائر النافذة والعزائم المتمكنة من أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كون الدين حقاً حصول الدولة في الدنيا أو باطلاً الإنكار والانهزام، بل مدار الأمر في كونه حقاً أو باطلاً على الدليل، وهذا أحسن الوجوه وأقربها إلى التحقيق. انتهى كلام الإمام.
قال الطَّيبي: ويشهد للقول الأول من هذين القولين قوله تعالى (من يُطِع الرسُولَ) وقوله (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ)، وللقول الثاني (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ) وبعده (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ). اهـ
قوله:((لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ) لا يكلف الله إلا فعل نفسك).
قال الراغب: إن قيل كيف قال (لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ) وقد بعث لتكليف الناس؟