للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} عَلِمْنَا أَنَّ الْحَكَمَيْنِ يُمْضِيَانِ أَمْرَهُمَا وَأَنَّهُمَا إنْ قَصَدَا الْحَقَّ وَفَّقَهُمَا اللَّهُ لِلصَّوَابِ مِنْ الْحُكْمِ. قَالَ: وَهَذَا لَا يُقَالُ لِلْوَكِيلَيْنِ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَعَدَّى مَا أُمِرَ بِهِ". وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَنْفِي مَعْنَى الْوَكَالَةِ; لِأَنَّ الْوَكِيلَيْنِ إذَا كَانَا مُوَكَّلَيْنِ بِمَا رَأَيَا مِنْ جَمْعٍ أَوْ تَفْرِيقٍ عَلَى جِهَةِ تَحَرِّي الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ فَعَلَيْهِمَا الِاجْتِهَادُ فِيمَا يُمْضِيَانِهِ مِنْ ذَلِكَ, وَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يُوَفِّقُهُمَا لِلصَّلَاحِ إنْ صَلُحَتْ نِيَّاتُهُمَا, فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالْحَكَمِ; إذْ كُلُّ مَنْ فُوِّضَ إلَيْهِ أَمْرٌ يُمْضِيهِ عَلَى جِهَةِ تَحَرِّي الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ, فَهَذِهِ الصِّفَةُ الَّتِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِهَا لَاحِقَةٌ بِهِ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي سَلَمَةَ وَطَاوُسٍ وَإِبْرَاهِيمَ قَالُوا: "مَا قَضَى بِهِ الْحَكَمَانِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ", وَهَذَا عِنْدَنَا كَذَلِكَ أَيْضًا. وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مُوَافَقَةِ قَوْلِهِ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا إنَّ فِعْلَ الْحَكَمَيْنِ فِي التَّفْرِيقِ وَالْخُلْعِ جَائِزٌ بِغَيْرِ رِضَى الزَّوْجَيْنِ, بَلْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُمْ أَنَّ الْحَكَمَيْنِ لَا يَمْلِكَانِ التَّفْرِيقَ إلَّا بِرِضَى الزَّوْجَيْنِ بِالتَّوْكِيلِ وَلَا يَكُونَانِ حَكَمَيْنِ إلَّا بِذَلِكَ, ثُمَّ مَا حَكَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ; وَكَيْفَ يَجُوزُ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يَخْلَعَا بِغَيْرِ رِضَاهُ وَيُخْرِجَا الْمَالَ عَنْ مِلْكِهَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:٤] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: ٢٢٩] , وَهَذَا الْخَوْفُ الْمَذْكُورُ هَهُنَا هُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} وَحَظَرَ اللَّهُ عَلَى الزَّوْجِ أَخْذَ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا إلَّا عَلَى شَرِيطَةِ الْخَوْفِ مِنْهُمَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ, فَأَبَاحَ حِينَئِذٍ أَنْ تَفْتَدِيَ بِمَا شَاءَتْ وَأَحَلَّ لِلزَّوْجِ أَخْذَهُ فَكَيْفَ يَجُوزُ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يُوقِعَا خُلْعًا أَوْ طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمَا وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَى إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهَا وَلَا أَنْ تَفْتَدِيَ بِهِ فَالْقَائِلُ بِأَنَّ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يَخْلَعَا بِغَيْرِ تَوْكِيلٍ مِنْ الزَّوْجِ مُخَالِفٌ لِنَصِّ الْكِتَابِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: ٢٩] فَمَنَعَ كُلَّ أَحَدٍ أَنْ يَأْكُلَ مَالَ غَيْرِهِ إلَّا بِرِضَاهُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: ١٨٨] , فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْحَاكِمَ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَخْذَ مَالِ أَحَدٍ وَدَفْعِهِ إلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ" , وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ", فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَمْلِكُ أَخْذَ مَالِهَا وَدَفْعِهِ إلَى زَوْجِهَا, وَلَا يَمْلِكُ إيقَاعَ طَلَاقٍ عَلَى الزَّوْجِ بِغَيْرِ تَوْكِيلِهِ وَلَا رِضَاهُ; وَهَذَا حُكْمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ إسْقَاطُهُ وَنَقْلُهُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَا مَنْ هُوَ لَهُ, فَالْحَكَمَانِ إنَّمَا يُبْعَثَانِ لِلصُّلْحِ بَيْنَهُمَا وَلِيَشْهَدَا عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>