التَّمْثِيلِ بِهِمَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُفَسَّرِ وَالْمُحْكَمِ أَنَّ الْمُفَسَّرَ قَابِلٌ لِلنَّسْخِ وَالْمُحْكَمَ غَيْرُ قَابِلٍ لَهُ، وَالْمِثَالَانِ الْمَذْكُورَانِ، وَهُمَا قَوْله تَعَالَى {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: ٣٠] وقَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: ٧٥] فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ بِحَسَبِ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا قَبُولَ النَّسْخِ وَعَدَمَهُ بِحَسَبِ اللَّفْظِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُفَسَّرٌ إذْ لَيْسَ فِي الْآيَتَيْنِ مَا يَمْنَعُ النَّسْخَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ، وَإِنْ أَرَادُوا بِحَسَبِ
ــ
[التلويح]
إذَا أُورِدَ بِشَيْءٍ مُقَيَّدٍ بِقَيْدٍ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الشَّيْءُ وَاجِبًا فَهُوَ لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ الْقَيْدِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «بِيعُوا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» ، وَهَذَا يُوَافِقُ مَا قَرَّرَهُ أَئِمَّةُ الْعَرَبِيَّةِ: مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى قَيْدٍ زَائِدٍ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ فَذَلِكَ الْقَيْدُ هُوَ مَنَاطُ الْإِفَادَةِ، وَمُتَعَلَّقُ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، وَمَرْجِعُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَقَيْدُ الشَّيْءِ بِكَوْنِهِ غَيْرَ وَاجِبٍ احْتِرَازٌ عَنْ مِثْلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» الْحَدِيثَ (قَوْلُهُ: النَّظِيرَانِ الْأَوَّلَانِ) أَوْرَدَ لِكُلٍّ مِنْ الْمُفَسَّرِ، وَالْمُحْكَمِ مِثَالَيْنِ فَالْمِثَالُ الْأَوَّلُ لِلْمُفَسَّرِ هُوَ قَوْله تَعَالَى {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: ٣٠] ، وَالْمِثَالُ الْأَوَّلُ لِلْمُحْكَمِ هُوَ قَوْله تَعَالَى {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: ٢٨٢] ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي التَّمْثِيلِ بِهِمَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ اشْتَرَطَ فِي الْمُحْكَمِ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ احْتِمَالِ النَّسْخِ بِاعْتِبَارِ لَفْظٍ دَالٍ عَلَى الدَّوَامِ، وَالتَّأْبِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْجِهَادُ مَاضٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فَلَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: ٢٨٢] مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مُحْكَمًا، وَإِنْ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَحَلِّ الْكَلَامِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي نَفْسِهِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّبْدِيلَ أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ شَيْءٌ مِنْ الْأَمْرَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ بَلْ أُرِيدَ عَدَمُ احْتِمَالِ النَّسْخِ بِاعْتِبَارِ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوْ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّ الْكَلَامِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: ٣٠] ، أَيْضًا مُحْكَمٌ؛ لِأَنَّ أَخْبَارَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَحْتَمِلُ النَّسْخَ لِتَعَالِيهِ عَنْ الْكَذِبِ وَالْغَلَطِ، وَمَبْنَى هَذَا الِاعْتِرَاضِ عَلَى تَبَايُنِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، وَاشْتِرَاطِ احْتِمَالِ النَّسْخِ فِي الْمُفَسَّرِ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْمُفَسَّرَ هُوَ قَوْله تَعَالَى {الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: ٣٠] مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى قَوْلِهِ فَسَجَدُوا إلَّا فَالْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ مُتَحَقِّقَةٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ جَمْعٌ ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ، وَبِقَوْلِهِ كُلُّهُمْ ازْدَادَ وُضُوحًا فَصَارَ نَصًّا، وَبِقَوْلِهِ أَجْمَعُونَ انْقَطَعَ احْتِمَالُ التَّخْصِيصِ فَصَارَ مُفَسَّرًا، وَقَوْلُهُ: فَسَجَدَ إخْبَارٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ فَيَكُونُ مُحْكَمًا وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ نَسْخَ الْمَعْنَى لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي كَلَامٍ دَالٍّ عَلَى حُكْمٍ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِنَسْخِ مَعْنَى اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ فَإِذَا اُعْتُبِرَ فِي الْمُفَسَّرِ احْتِمَالُ النَّسْخِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُفِيدًا لِحُكْمٍ، وَاعْتُرِضَ أَيْضًا بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: ٣٠] لَا يَصْلُحُ مِثَالًا لِلْمُفَسَّرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَثْنَى إبْلِيسَ فَيَكُونُ مُحْتَمِلًا لِلتَّخْصِيصِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ إبْلِيسَ مِنْ الْجِنِّ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ، وَعَدَّ إبْلِيسُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute