بِالْمُحْكَمَاتِ غَايَةَ الْإِحْكَامِ وَجَعَلَ الْمُتَشَابِهَاتِ مَقْصُورَاتِ خِيَامِ الِاسْتِتَارِ ابْتِلَاءً لِقُلُوبِ الرَّاسِخِينَ) فَإِنَّ إنْزَالَ الْمُتَشَابِهَاتِ عَلَى مَذْهَبِنَا وَهُوَ الْوَقْفُ اللَّازِمُ عَلَى قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: ٧] لِابْتِلَاءِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بِكَبْحِ عَنَانِ ذِهْنِهِمْ عَنْ التَّفَكُّرِ فِيهَا، وَالْوُصُولِ إلَى مَا يَشْتَاقُونَ إلَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ بِالْأَسْرَارِ الَّتِي أَوْدَعَهَا فِيهَا وَلَمْ يُظْهِرْ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ عَلَيْهَا (وَالنُّصُوصُ مِنَصَّةُ عَرَائِسِ أَبْكَارِ أَفْكَارِ الْمُتَفَكِّرِينَ) مِنَصَّةُ الْعَرُوسِ مَكَانٌ يُرْفَعُ الْعَرُوسُ عَلَيْهِ لِلْجِلْوَةِ (وَكَشْفِ
ــ
[التلويح]
فَأَضَافَ الْمُشَبَّهَ بِهِ إلَى الْمُشَبَّهِ كَمَا فِي لُجَيْنِ الْمَاءِ وَالْأَحْكَامُ تَسْتَنِدُ إلَى أَدِلَّةٍ جُزْئِيَّةٍ تَرْجِعُ مَعَ كَثْرَتِهَا إلَى أَرْبَعَةِ دَلَائِلَ هِيَ أَرْكَانُ قَصْرِ الْأَحْكَامِ فَذَكَرَهَا فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي بَنَى الشَّارِعُ الْأَحْكَامَ عَلَيْهَا مِنْ تَقْدِيمِ الْكِتَابِ، ثُمَّ السُّنَّةِ، ثُمَّ الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ ذَكَرَ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ صَرِيحًا وَالْقِيَاسَ بِقَوْلِهِ وَوَضَعَ مَعَالِمَ الْعِلْمِ عَلَى مَسَالِكِ الْمُعْتَبِرِينَ أَيْ الْقَائِلِينَ الْمُتَأَمِّلِينَ فِي النُّصُوصِ وَعَلَّلَ الْأَحْكَامَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: ٢] تَقُولُ اعْتَبَرْت الشَّيْءَ إذَا نَظَرْت إلَيْهِ وَرَاعَيْت وَالْعِلْمُ الْأَثَرُ الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ عَبَّرَ بِهِ عَنْ عِلَّةِ الْحُكْمِ الَّتِي بِهَا يُسْتَدَلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمَقِيسِ، فَإِنْ قُلْتَ: لَيْسَ تَرْتِيبُ الشَّارِعِ تَقْدِيمَ السُّنَّةِ عَلَى الْإِجْمَاعِ مُطْلَقًا، بَلْ إذَا كَانَتْ قَطْعِيَّةً قُلْتُ: الْكَلَامُ فِي مَتْنِ السُّنَّةِ وَلَا خَفَاءَ فِي تَقَدُّمِهِ، وَإِنَّمَا يُؤَخَّرُ حَيْثُ يُؤَخَّرُ لِعَارِضِ الظَّنِّ فِي ثُبُوتِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ أَقْسَامِ الْكِتَابِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ كَمَا يَشْتَمِلُ الْقَصْرُ عَلَى مَا هُوَ غَايَةٌ فِي الظُّهُورِ وَعَلَى مَا هُوَ دُونَهُ وَعَلَى مَا هُوَ غَايَةٌ فِي الْخَفَاءِ وَالِاسْتِتَارِ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ إلَيْهِ غَيْرُ رَبِّ الْقَصْرِ وَعَلَى مَا هُوَ دُونَهُ كَذَلِكَ قَصْرُ الْأَحْكَامِ يَشْتَمِلُ عَلَى مُحْكَمٍ هُوَ غَايَةٌ فِي الظُّهُورِ وَنَصٍّ هُوَ دُونَهُ وَعَلَى مُتَشَابِهٍ هُوَ غَايَةٌ فِي الْخَفَاءِ وَمُجْمَلٍ هُوَ دُونَهُ وَسَيَجِيءُ تَفْسِيرُهَا.
قَوْلُهُ (مَقْصُورَاتٌ) أَيْ مَحْبُوسَاتٌ جَعَلَ خِيَامَ الِاسْتِتَارِ مَضْرُوبَةً عَلَى الْمُتَشَابِهِ مُحِيطَةً بِهِ بِحَيْثُ لَا يُرْجَى بُدُوُّهُ وَظُهُورُهُ أَصْلًا عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ مِنْ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَفَائِدَةُ إنْزَالِهِ ابْتِلَاءُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بِمَنْعِهِمْ عَنْ التَّفْكِيرِ فِيهِ وَالْوُصُولِ إلَى مَا هُوَ غَايَةُ مُتَمَنَّاهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِأَسْرَارِهِ فَكَمَا أَنَّ الْجُهَّالَ مُبْتَلَوْنَ بِتَحْصِيلِ مَا هُوَ غَيْرُ مَطْلُوبٍ عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِمْعَانِ فِي الطَّلَبِ كَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ مُبْتَلَوْنَ بِالْوَقْفِ وَتَرْكِ مَا هُوَ مَحْبُوبٌ عِنْدَهُمْ، إذْ ابْتِلَاءُ كُلِّ أَحَدٍ إنَّمَا يَكُونُ بِمَا هُوَ عَلَى خِلَافِ هَوَاهُ وَعَكْسِ مُتَمَنَّاهُ.
قَوْلُهُ (بِكَبْحِ عَنَانِ ذِهْنِهِمْ) تَقُولُ كَبَحْت الدَّابَّةَ إذَا جَذَبْتهَا إلَيْك بِاللِّجَامِ لِكَيْ تَقِفَ وَلَا تَجْرِيَ.
قَوْلُهُ (أَوْدَعَهَا فِيهَا) أَيْ أَوْدَعَ اللَّهُ الْأَسْرَارَ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ وَالْإِيدَاعُ مُتَعَدٍّ إلَى مَفْعُولَيْنِ تَقُولُ أَوْدَعْته مَالًا إذَا دَفَعْته إلَيْهِ لِيَكُونَ وَدِيعَةً عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا عَدَّاهُ بِفِي تَسَامُحًا أَوْ تَضْمِينًا بِمَعْنَى الْإِدْرَاجِ وَالْوَضْعِ.
قَوْلُهُ (مَنَصَّةً) بِفَتْحِ الْمِيمِ الْمَكَانُ الَّذِي يُرْفَعُ عَلَيْهِ الْعَرُوسُ لِلْجِلْوَةِ مِنْ نَصَصْت الشَّيْءَ رَفَعْته وَالْعَرُوسُ نَعْتٌ يَسْتَوِي فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ مَا دَامَا فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute