للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الأنفس التي تعشق بطبعها الصور البيانية الجميلة، وذلك لأن المقام ليس بحاجة إلى حجج عقلية جدلية، ولكن يتطلب مثيرات مشاعر الشجاعة والإقدام في قلوب المؤمنين لمصارعة المبطلين، والثبات على ما هم عليه من حق، ويتطلب أيضًا مثيرات مشاعر الجبن، والإحساس بالخيبة والفشل في قلوب الكافرين الذين يتخذون الحق بالمظاهر التي لا وزن لها، ولا استقرار ولا ثبات.

وذلك إذ وصل الأمر بين الإيمان والكفر، والمؤمنين والكافرين إلى مرحلة الصراع بين حق يغالب ليظهر ويظفر وليبسط في الأرض عدله ونوره وخيره الكثير، وباطل يدافع عن وجوده غير المشروع، ومبطلين يصارعون الحق المبين، ليحافظوا على مكاسب ظالمة، ما كانوا ليصلوا إليها لولا ظلمات الباطل الذي يدعمونه، ويعلنون أنه حق كذبًا وبهتانًا.

لكن هذا الصراع مهما طالت مدته فلا بد أن يظهر فيه الحق على الباطل، ويكون له الاستقرار والاستمرار في الأرض، وإن بدا للباطل ظهور فارغ في أول الأمر، وانتفاخ طاف على السطح، حتى يغتر به الجاهلون، وينخدع بزيفه المغفلون إلا أنه لا يلبث أن يقذف به إلى جوانب الحياة مهملًا مستقذرًا لا قيمة له.

وما مثله إلا كمثل الزبد الحقير الذي يصارع المادة النافعة، في عنفوان حركتها، فيطفو عليها مدة تسيرة، ثم لا يلبث أن يذهب جفاء، وأما المادة النافعة فإنها تمكث وتستقر بثقلها ورجاحتها؛ لينتفع بها الناس.

هذا ما صورته الآية بأسلوبها البديع المفاجئ.

أما موقف الصراع فقد أوردته الآية على صورة مثلين ماديين مشاهدين، جميعًا في صورة مثل واحد؛ لتشابههما في الشكل، وفي النتيجة.

أما المثل الأول: فهو مشهد من المشاهد الكونية يلاحظه الذين يعيشون في متقلب الأحوال الجوية، في البوادي بين السهول والجبال والوذيان، إنه مشهد مياه غزيرة، تنزل من السماء بقضاء الله، فتعم السهل والوعر والجبل، فتجتمع منحصرة بين الجبال، هابطة من كل مرتفع، حتى تملأ الأودية، وتسيل فيها سيلًا

<<  <   >  >>