وفي القرآن من ذلك كثير. وما دام الشعور بذل العبودية وضعفها واحتياجها إلى ربها الكبير المتعال العظيم ذي الفضل والإنعام- ما دام هذا الشعور هو أصل وسر جلال الرسالة فكلما زاد هذا الشعور بالعبودية وعظمة الربوبية زاد معه الكمال والترقي.
وذلك مبدأ مستقر في النفوس. وتجد له أمثلة في الناس خصوصا بين الرؤساء والملوك وبين المحيطين بهم. فكلما كان المخالط المقرب لهؤلاء الرؤساء خبيرا بواجبه نحو رؤسائه، قالئما بحقهم، مراعيا لمرضاتهم كان ذلك سبب زيادة تكريمه ورفعته ودوام نعمته.
وحين يتغاضى هذا المقرب أي تغاض - ولو كان غير مقصود - عن القيام ببعض ما ينبغي - وقد يكون ما ينبغي أمرا ليس في حساب أحد اعتباره حين يفعل ذلك يعاتب من رئيسه أو يلام فيظن من يسمع اللوم أنه أذنب ذنبا حقيقيا. وليس الأمر كذلك، إنما هي تكاليف المقامات العالية وضريبة القرب ممن بعدت في العظمة مكانته- وهذا مثل ضربته لتقريب المعنى-
إذا كان هذا الأمر مركوزا في الفطر وعهودا عند الناس، فغنك تستطيع أن تنطلق من هذا الفهم إلى ما بين المرسلين وبين ربهم سبحانه وتعالى (ولله المثل الأعلى) فمقام العبودية يوجب على الأنبياء المحاولة الدائمة لطلب الكمال عند الله- والكمال اللائق بجلال الله تعالى غير ممكن للبشر. لأن البشر يعيشون حياتهم في حدود بشريتهم لذلك شعر الأنبياء والمرسلون دائما بأنهم عبيد مقصرون في حق الله تعالى مع أنهم في غاية الكمال الإنساني.
من أجل ذلك تجد هؤلاء المرسلين يكثرون التوبة إلى الله. ويخافون ربهم أكثر من غيرهم. ويبكون البكاء الحار. ويجهدون أنفسهم أضعاف أضعاف ما يجهد أقوى رجل مؤمن من أتباعهم نفسه.
لماذا كل هذا؟ ألأنهم وقعوا في فاحشة؟ ألأنهم بارزوا ربهم بمعصية؟ ألأنهم فعلوا ما نهوا عنه وتركوا ما أمروا به؟ كلا. وألف كلا، وإلا لانهدم كل صرح أقاموه ورفض كل دين جاءوا به.