قُلْنَا: إنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَكَذَلِكَ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ يَقُولُونَ بِتَعْيِينِهَا فِي الْغَصْبِ.
وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ السَّائِلُ مِنْ النَّصِّ عِنْدَ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَأَنَّ ظَاهِرَهَا أَنَّ لِلْمَغْصُوبِ أَنْ يُجْبِرَ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ عَلَى أَخْذِ مِثْلِ دَرَاهِمِهِ مَعَ بَقَائِهَا فَهُوَ مُسْتَبْعَدٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَأْخَذُهُ أَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ مُنْطَبِقًا عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ.
فَإِنَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ انْقَطَعَ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْ عَيْنِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ وَالدَّرَاهِمُ الَّتِي أَخَذَهَا بَدَلَهَا حَلَالٌ وَتَصِيرُ هِيَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ حَلَالًا لَهُ وَلِمَنْ أَخَذَهُمَا مِنْهُ بِطَرِيقِهِ، هَذَا مُقْتَضَى التَّفْرِيعِ عَلَى عَدَمِ التَّعْيِينِ وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ مِنْ جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ فِي الْغَصْبِ وَخِلَافِهِ، وَقَدْ أَطْلَقَ الَّذِينَ صَنَّفُوا فِي الْإِجْمَاعِ حِكَايَةَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ شَيْئًا - أَيَّ شَيْءٍ كَانَ - وَكَانَ بَاقِيًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ أَنَّهُ يَرُدُّ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَقْبَلُ الْخِلَافُ أَمَّا فِي غَيْرِ النُّقُودِ فَلَا شُبْهَةَ فِيهِ وَأَمَّا النُّقُودُ فَفِيهَا الشُّبْهَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ فَالْحَقُّ التَّعْيِينُ وَبَقَاءُ ذَلِكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَمَنْ قَبَضَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ عَلَى التَّحْرِيمِ حَتَّى يَرُدَّ إلَى صَاحِبِهِ قَالَ تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: ١٨٨] وَالْمَالُ الْمَغْصُوبُ كَائِنًا مَا كَانَ مَالُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَمَنْ أَكَلَهُ بِغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ فَقَدْ أَكَلَ مَالَ غَيْرِهِ بِالْبَاطِلِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: ٥٨] فَإِذَا كَانَتْ الْأَمَانَاتُ تَجِبُ تَأْدِيَتُهَا إلَى أَهْلِهَا فَالْمَضْمُونَاتُ الْمَأْخُوذَةُ عُدْوَانًا بِطَرِيقٍ أَوْلَى فَكَانَ النَّصُّ دَالًا عَلَى رَدِّ الْعَيْنِ إلَى صَاحِبِهَا مَا دَامَتْ بَاقِيَةً.
وَقَالَ تَعَالَى {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: ٧٥] قَدَّمَ تَعَالَى عَلَى عَدَمِ أَدَاءِ الدِّينَارِ الْمُؤْتَمَنِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا وَذَلِكَ لِيَشْمَلَ مَا إذَا أَرَادَ أَوْ مَثِيلَهُ أَوْ لَا وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّ النُّقُودَ وَغَيْرَهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ اسْمِ الْأَمْوَالِ وَيَتَعَلَّقُ الْمِلْكُ بِأَعْيَانِهَا وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: ١٢] الْآيَاتِ، فَحَكَمَ بِمِلْكِهِمْ لِمَا يَخُصُّهُمْ مِنْ مَتْرُوكِ الْمَيِّتِ وَذَلِكَ يَشْمَلُ النَّقْدَ وَغَيْرَهُ وقَوْله تَعَالَى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} [آل عمران: ١٤] فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ مَمْلُوكَةً لَمَا كَانَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute