لِأَنَّ أَخْذَهَا مِنْ غَيْرِ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يُوثَقُ بِهِ نَعَمْ إنَّ الْمَعَانِيَ أَوْسَعُ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَتَأْثِيرُ الْكَلَامِ فِي النَّفْسِ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ:
(أَحَدُهَا) بِدَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ الْمُتَكَلِّمُ.
(وَالثَّانِي) : بِصُورَتِهِ الَّتِي صَنَعَتْ ذَلِكَ.
(وَالثَّالِثُ) : بِحَالَةٍ فِي الْمُتَكَلِّمِ تُقَرِّرُ مَعْنَى ذَلِكَ الْكَلَامِ فِي قَلْبِهِ وَتَكَيُّفِهِ بِهِ وَكَيْفِيَّةِ إلْقَائِهِ لِلسَّامِعِ وَالْحَالَةِ الَّتِي تَلْبَسُهُ عِنْدَ ذَلِكَ.
(وَالرَّابِعُ) : بِحَالَةٍ فِي السَّامِعِ مِنْ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَتَفْرِيغِ قَلْبِهِ وَإِلْقَائِهِ سَمْعَهُ وَطِيبِ مَنْبَتِهِ حَتَّى يَكُونَ قَلْبُهُ كَالْأَرْضِ الَّتِي يُلْقَى فِيهَا الْبَذْرُ وَتَشَوُّقِهِ لَهُ وَقَبُولِهِ.
وَالْأَوَّلُ هُوَ الْعِلَّةُ الْمَادِّيَّةُ، وَالثَّانِي: الْعِلَّةُ الصُّورِيَّةُ وَالثَّالِثُ: الْعِلَّةُ الْفَاعِلِيَّةُ، وَالرَّابِعُ: الْعِلَّةُ الْقَابِلِيَّةُ؛ وَمِنْ هَذَا كَانَ كَلَامُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلصَّحَابَةِ لَا شَيْءَ أَعْظَمُ تَأْثِيرًا مِنْهُ، وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُمْ فَعَدِمُوا تِلْكَ الْحَالَةَ الشَّرِيفَةَ وَهِيَ مُخَاطَبَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَقِيَتْ عِنْدَهُمْ الْعِلَّةُ الْمَادِّيَّةُ وَالصُّوَرُ بِبَقَاءِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَأَلْفَاظِ السُّنَّةِ الَّتِي لَمْ تُرْوَ بِالْمَعْنَى فَهُوَ حَاصِلٌ لَنَا كَمَا هُوَ حَاصِلٌ لِلصَّحَابَةِ، وَأَمَّا الْقَابِلِيَّةُ فَبِحَسْبِ مَا يُفِيضُهُ اللَّهُ مِنْ الْأَنْوَارِ عَلَى قُلُوبِنَا وَهِيَ لَوْ بَلَغَتْ مَا بَلَغَتْ لَا تَصِلُ إلَى رُتْبَةِ الصَّحَابَةِ وَأَيْنَ وَأَيْنَ فَكُلُّ مَعْنًى خَطَرَ فِي الْقَلْبِ لَا بُدَّ مِنْ عَرْضِهِ عَلَى كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي هِيَ جَوَامِعُ الْكَلِمِ فَإِذَا شَهِدَتْ لَهَا قُبِلَتْ وَإِلَّا رُدَّتْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. كَتَبْت بُكْرَةَ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ.
[حِفْظُ الصِّيَامِ مِنْ فَوْتِ التَّمَامِ]
(مَسْأَلَةٌ فِي حِفْظِ الصِّيَامِ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. وَبَعْدُ فَقَدْ سُئِلْت عَنْ الصَّائِمِ إذَا حَصَلَ مِنْهُ شَتْمٌ أَوْ غِيبَةٌ ثُمَّ تَابَ هَلْ يَزُولُ مَا حَصَلَ لِصَوْمِهِ مِنْ النَّقْصِ أَوْ لَا؟ فَابْتَدَرَ ذِهْنِي إلَى أَنَّهُ لَا يَزُولُ فَنَازَعَ السَّائِلُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ ذُو عِلْمٍ وَزَادَ فَادَّعَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتُبْ لَا يَحْصُلُ لِصَوْمِهِ نَقْصٌ لِأَنَّهَا صَغِيرَةٌ تُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ فَلَا تَنْثَلِمُ بِهَا تَقْوَاهُ.
وَرُبَّمَا زَادَ وَأَشَارَ إلَى أَنَّهَا وَلَوْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَانْتَقَصَ الصَّوْمُ وَإِنَّمَا تَنْثَلِمُ تَقْوَاهُ وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَا تَثْلَمُ تَقْوَاهُ لِأَنَّهَا تَقَعُ مُكَفِّرَةً وَلِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهَا وَنُدْرَةِ السَّالِمِينَ عَنْهَا. وَقَدْ تَضَمَّنَ سُؤَالُهُ هَذَا وَمُرَاجَعَتُهُ جُمْلَةً مِنْ الْمَسَائِلِ تَحْتَاجُ أَنْ نُجِيبَ عَنْهَا فَنَقُولَ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ:
(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) فِي أَنَّ الصَّوْمَ هَلْ يَنْقُصُ بِمَا قَدْ يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ الْمَعَاصِي أَوْ لَا؟
وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَنْقُصُ وَمَا أَظُنُّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ