للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَى خِلَافِ قَوْله تَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦] {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: ١٥] أَقُولُ: عَطْفُ الْوُجُودِ عَلَى الْخَلْقِ لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ إلَّا أَنْ تَقُولَ: إنَّ الْخَلْقَ فِعْلٌ وَالْوُجُودَ انْفِعَالٌ، وَالثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ فِي الذِّهْنِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْخَارِجِ فَهَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَا يُعْتَمَدُ فِي مِثْلِ هَذَا، وَقَوْلُهُ: إنَّهُمْ سَابِقُونَ عَلَى الْإِنْسِ إنْ اسْتَنَدَ فِي هَذَا إلَى قَوْله تَعَالَى {إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: ٥٠] فَالنَّاسُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ الْجِنَّ اسْمٌ لِكُلِّ مَنْ اسْتَتَرَ عَنْ الْعُيُونِ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ وَيَنْقَسِمُ إلَى مُؤْمِنِينَ يُسَمَّوْنَ مَلَائِكَةً وَإِلَى كُفَّارٍ يُسَمَّوْنَ شَيَاطِينَ حَكَاهُ الْحَلِيمِيُّ وَقَدْ أَشَرْنَا إلَيْهِ فِيمَا سَبَقَ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَلَائِكَةُ جِنْسٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْجِنِّ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ وَعَلَى هَذَا قُلْ: إنَّ إبْلِيسَ أَبُو الْجِنِّ كَآدَمَ أَبِي الْبَشَرِ فَعَلَى الْأَوَّلِ مُؤْمِنُو الْجِنِّ هُمْ الْمَلَائِكَةُ وَهُمْ مُكَلَّفُونَ وَتَكْلِيفُهُمْ إمَّا بِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِمَّا بِخَلْقِ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ بِمَا يُؤْمَرُونَ بِهِ وَيُنْهَوْنَ عَنْهُ وَإِمَّا بِأَنْ يُرْسَلَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، وَكُفَّارُ الْجِنِّ هُمْ الشَّيَاطِينُ وَلَعَلَّ أَوَّلَهُمْ إبْلِيسُ وَهُوَ مُكَلَّفٌ بِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ بَعْدَهُ لَا يَلْزَمُ فِيهِ مَا قَالَهُ السَّائِلُ: يَجُوزُ وُصُولُ رُسُلِ الْإِنْسِ إلَيْهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَكُونُ الْجِنُّ مَوْجُودِينَ قَبْلَ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَمْ يُنْقَلْ لَنَا كَيْفَ كَانَ تَكْلِيفُهُمْ هَلْ هُوَ بِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ وَاسْتِدْلَالِيٍّ، وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَفَرْضُ هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ التَّكْلِيفِ الَّذِي لَا حَاجَةَ إلَى الْكَلَامِ فِيهِ وَتَوْقِيفُ التَّكْلِيفِ عَلَى الرَّسُولِ إنَّمَا هُوَ فِي هَذِهِ الْأُمَمِ الَّتِي فِيهَا الرُّسُلُ وَإِلَّا فَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ رُسُلٌ كَجِبْرِيلَ مُكَلَّفُونَ.

وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ إنْكَارَ وُجُودِ الْجِنِّ وَهُوَ عَجَبٌ كَيْفَ يُنْكِرُ مَنْ يُصَدِّقُ بِالْقُرْآنِ وُجُودَ الْجِنِّ.

وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا لِيَعْلَمَ السَّائِلُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي يَأْخُذُهَا مُسَلَّمَةٌ مِنْ نَفْسِهِ لَا يُسَلِّمُهَا إلَيْهِ غَيْرُهُ وقَوْله تَعَالَى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} [الإسراء: ١٥]- الْآيَةَ سِيَاقُ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْإِنْسِ فَإِنَّهُ قَالَ {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: ١٣]- الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ {رَسُولا} [الإسراء: ١٥] وَلَا خِلَافَ أَنَّ إبْلِيسَ مُكَلَّفٌ مُعَذَّبٌ لِمُخَالَفَتِهِ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ رَسُولٌ لَا إنْسِيٌّ وَلَا

<<  <  ج: ص:  >  >>