{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: ٧] وَقَدْ أَتَانَا فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُنَّتُهُ وَسُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِهِ، وَمِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ اجْتِمَاعُ الْمُؤْمِنِينَ كُلُّ طَائِفَةٍ فِي مَسْجِدِهِمْ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ثُمَّ اجْتِمَاعُ جَمِيعِ أَهْلِ الْبَلَدِ فِي الْجُمُعَةِ ثُمَّ اجْتِمَاعُ أَهْلِ الْبَلَدِ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا مِنْ الْعَوَالِي فِي الْعِيدَيْنِ لِتَحْصُلَ الْأُلْفَةُ بَيْنَهُمْ وَلَا يَحْصُلُ تَقَاطُعٌ وَلَا تَفَرُّقٌ فَالتَّفْرِيقُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَضَرِّ شَيْءٍ يَكُونُ، فَالِاجْتِمَاعُ دَاعٍ إلَى اتِّفَاقِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاحِدِ لَا ضَبْطَ لَهَا فَاقْتَصَرَ عَلَى الْوَاحِدَةِ وَهَذَا فِي الْجُمُعَةِ لَا يَشُقُّ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ جُعِلَتْ فِي مَسَاجِدِ الْمَحَالِّ فَانْظُرْ إلَى قَوْله تَعَالَى {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: ١٠٧] كَيْفَ جَعَلَهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِهَدْمِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ.
(فَصْلٌ) وَانْقَرَضَ عَصْرُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - عَلَى ذَلِكَ، وَجَاءَ التَّابِعُونَ فَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا مِنْهُمْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا، وَلَا قَالَ بِجَوَازِ جُمُعَتَيْنِ فِي بَلَدٍ إلَّا رِوَايَةَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْت لِعَطَاءٍ: أَرَأَيْت أَهْلَ الْبَصْرَةِ لَا يَسَعُهُمْ الْمَسْجِدُ الْأَكْبَرُ كَيْفَ يَصْنَعُونَ؟ قَالَ: لِكُلِّ قَوْمٍ مَسْجِدٌ يُجْمَعُونَ فِيهِ ثُمَّ يُجْزِئُ ذَلِكَ عَنْهُمْ؛ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَنْكَرَ النَّاسُ أَنْ يُجَمِّعُوا إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْأَكْبَرِ.
هَذَا لَفْظُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ نَقَلْتُهُ مِنْهُ وَفِيهِ مَا تَرَاهُ مِنْ إنْكَارِ النَّاسِ مَا قَالَهُ عَطَاءٌ وَمِنْهُ صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي سُئِلَ عَنْهَا عَطَاءٌ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَسْجِدُ لَا يَسَعُهُمْ فَلَيْسَ فِيهِ إجَازَةُ ذَلِكَ وَفِيهِ قَوْلٌ لِكُلِّ قَوْمٍ مَسْجِدٌ يُجَمِّعُونَ فِيهِ ثُمَّ يُجْزِئُ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَلَا شَكَّ أَنَّ ظَاهِرَ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِسَائِرِ النَّاسِ فَالرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ سَائِرِ النَّاسِ مَعَ الصَّحَابَةِ جَمِيعِهِمْ أَوْلَى وَيَصِيرُ مَذْهَبُ عَطَاءٍ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَذَاهِبِ الشَّاذَّةِ الَّتِي لَمْ يَعْمَلْ بِهَا النَّاسُ؛ وَيُحْتَمَلُ تَأْوِيلُهُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُمْ يُجَمِّعُونَ بِالدُّعَاءِ وَالْمَوْعِظَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الصَّلَاةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ إقَامَةَ جُمُعَتَيْنِ فِي بَلَدٍ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ عِنْدَ عَدَمِ إمْكَانِ الِاجْتِمَاعِ فِي مَكَان وَاحِدٍ وَيَجْتَهِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّابِقُ فَإِنْ حَصَلَ السَّبْقُ لِأَحَدِهِمَا أَجْزَأَتْ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ يُجْزِئُ عَنْهُ، وَيُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ ثُمَّ يُجْزِئُ عَنْهُ.
وَنَحْنُ نِزَاعُنَا إنَّمَا هُوَ فِي صِحَّتِهَا وَإِنْ عُلِمَ سَبْقُ أَحَدِهِمَا وَمَسْبُوقِيَّةُ الْأُخْرَى، ثُمَّ انْقَرَضَ عَصْرُ التَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَجَدَّدْ فِيهِ خِلَافٌ آخَرُ مِنْ غَيْرِ عَطَاءٍ زِيَادَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا.
وَلْنَذْكُرْ مَا وَرَدَ عَنْ التَّابِعِينَ: رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ يَسَارٍ أَنَا صَالِحُ بْنُ سُعَيْدٍ الْمَكِّيُّ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ مُبْتَدِئٌ بِالسُّوَيْدَاءِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute