وَأَطْلَقَ فَإِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ الْمُهْدَى إلَيْهِ وَهُنَا عَيَّنَهُ وَهُوَ الْكَعْبَةُ وَإِذَا وَجَدْنَا مَالًا فِي الْكَعْبَةِ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ حَمَلْنَاهُ عَلَيْهَا عَمَلًا بِالْيَدِ كَمَا تَبْقَى أَيْدِي أَرْبَابِ الْأَمْلَاكِ عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ فَكَذَلِكَ يَبْقَى مَا فِي الْكَعْبَةِ مِنْ الْمَالِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لَا نُحَرِّكُهُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فَإِنْ قُلْت: فَمَا مُسْتَنَدُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا هَمَّ بِهِ؟ قُلْت عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إمَامُ هُدًى وَأَبُو بَكْرٍ أَعْظَمُ مِنْهُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْظَمُ مِنْهُمَا وَالْهُدَى كُلُّهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ فَلَا يَلْزَمُنَا النَّظَرُ فِيمَا كَانَ سَبَبُ هَمِّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ لِمُجَرَّدِ مَا سَمِعَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمَا وَأَطْوَعُ لَهُمَا.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ نَظَرًا لَهُمْ فَلَمَّا أَخْبَرَهُ شَيْبَةُ صَوَّبَ فِعْلَهُ وَإِنَّمَا تَرَكَاهُ لِأَنَّ مَا جُعِلَ لِلْكَعْبَةِ وَسُبِّلَ لَهَا يَجْرِي مَجْرَى الْأَوْقَافِ وَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ الْأَوْقَافِ وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا تَعْظِيمُ الْإِسْلَامِ وَحُرُمَاتِهِ وَتَرْهِيبُ الْعَدُوِّ؛ وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ عُمَرُ: لَوْ أَخَذْنَا مَا فِي الْبَيْتِ يَعْنِي الْكَعْبَةَ فَقَسَمْنَاهُ. فَقَالَ لَهُ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ: وَاَللَّهِ مَا ذَلِكَ لَك قَالَ: لِمَ قَالَ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ مَوْضِعَ كُلِّ مَالٍ وَأَقَرَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: صَدَقْت.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي صَدْرِ كَلَامِهِ: إنَّ عُمَرَ رَأَى أَنَّ مَا فِيهَا مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ لِكَثْرَتِهِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ تَبْوِيبِ الْبُخَارِيِّ وَإِدْخَالِهِ هَذَا الْحَدِيثَ فِيهِ أَنَّ حُكْمَ الْكُسْوَةِ حُكْمُ الْمَالِ وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ أَيْضًا فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ أَرَادَ أَنْ يَقْسِمَ الْمَالَ الَّذِي تَجَمَّعَ وَفَضَلَ عَنْ نَفَقَتِهَا وَمُؤْنَتِهَا وَيَضَعَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا ذَكَّرَهُ شَيْبَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ بَعْدَهُ لَمْ يَعْرِضَا لَهُ لَمْ يَسَعْهُ خِلَافُهُمَا وَرَأَى أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِمَا وَاجِبٌ فَرُبَّمَا تَهَدَّمَ الْبَيْتُ أَوْ خَلَقَ بَعْضُ آلَاتِهِ فَصَرَفَ ذَلِكَ الْمَالَ فِيهِ وَلَوْ صَرَفَ ذَلِكَ الْمَالَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لَكَانَ كَأَنَّهُ قَدْ أُخْرِجَ عَنْ وَجْهِهِ الَّذِي سُبِّلَ لَهُ.
فَإِنْ قُلْت: قَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ وَجْهَيْنِ فِي صِحَّةِ الْهِبَةِ لِلْمَسْجِدِ وَأَنَّهُ هَلْ يُمْلَكُ أَوْ لَا يُمْلَكُ. قُلْت أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ وَأَنَّهُ تَصِحُّ الْهِبَةُ وَيَقْبَلُهَا قَيِّمُهُ وَيُمْلَكُ وَيُؤْخَذُ لَهُ بِالشُّفْعَةِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ ضَعِيفٌ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ أَوْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ بَلْ يَكُونُ الْوَجْهُ خَاصًّا بِالْهِبَةِ الْمُفْتَقِرَةِ إلَى إيجَابٍ وَقَبُولٍ. وَأَمَّا الْإِهْدَاءُ إلَى الْكَعْبَةِ فَأَصْلُهُ مَعْهُودٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: ٩٥] وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْفِدَاءِ لَكِنَّهُ عُرِفَ بِهِ مَشْرُوعِيَّةُ هَذَا النَّوْعِ وَإِضَافَتُهُ إلَى الْكَعْبَةِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْمَسْجِدِ هَلْ هُوَ وَقْفٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ عَلَى مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ؟ وَالْأَصَحُّ الثَّانِي وَالْقَائِلُ بِالْأَوَّلِ لَا يُرِيدُ أَنَّهُ وَقْفٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَصْرِفُونَهُ فِيمَا شَاءُوا بَلْ يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ قَطْعًا وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى جَعْلِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ الْقَابِلُونَ لِلتَّمَلُّكِ وَالْجِهَادُ لَا يَقْبَلُ التَّمَلُّكَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute