لَا يَنُوبُ الْقَاضِي عَنْهُ فِي فِعْلِ مَصْلَحَتِهِ لِحُضُورِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَهُوَ بَيْعُ الْمَرْهُونِ وَفِي الْغَيْبَةِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فِي ذَلِكَ، وَالْقَاضِي يَنُوبُ عَنْ الرَّاهِنِ فِيمَا لَهُ، وَهُوَ دَفْعُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِأَنْ يَبِيعَ غَيْرَ الرَّهْنِ وَيُوَفِّيَهُ لِقَطْعِ مُطَالَبَتِهِ بِبَيْعِ الرَّهْنِ كَمَا يَفْعَلُهُ الرَّاهِنُ فِي حُضُورِهِ. فَإِنْ بَاعَ الْقَاضِي الرَّهْنَ كَانَ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَقَطْ وَاتَّجَهَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَسُقُوطِ مُرَاجَعَةِ الرَّاهِنِ لِلتَّعَذُّرِ، وَإِنْ بَاعَ غَيْرَ الرَّهْنِ كَانَ لِحَقِّ الرَّاهِنِ، وَاتَّجَهَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ وَتَزْوِيجِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ فِي غَيْبَةِ الْمَوْلَى مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الرَّبِيعَيْنِ، فَكَانَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَهَذَا الْمَأْخَذُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَنْ بَعْضِ مَنْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ مِنْ الْمُخْبِطِينَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ هُوَ الصَّوَابَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَإِنْ قُلْت: هَلْ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ يَنْحَصِرُ فِي الرَّهْنِ، أَوْ لَا؟ قُلْت: لَا، وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ وَسَوَاءٌ ثَبَتَ الِانْحِصَارُ أَمْ لَا، فَالْمَأْخَذُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ يَطَّرِدُ. فَإِنْ قُلْت: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ إذَا بِيعَ الرَّهْنُ فَالْمُرْتَهِنُ أَوْلَى بِثَمَنِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَفَاءُ حَقِّهِ حَاصَّ غُرَمَاءُ الرَّاهِنِ بِمَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ غَيْرَ مَرْهُونٍ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحَاصَّهُمْ قَبْلَ بَيْعِ الرَّهْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَوُقِفَ مَالُ غَرِيمِهِ حَتَّى يُبَاعَ رَهْنُهُ ثُمَّ يُحَاصَّهُمْ بِمَا فَضَلَ عَنْ رَهْنِهِ هَلْ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلِلْقَوْلِ بِالِانْحِصَارِ، أَوْ عَدَمِ الِانْحِصَارِ، أَوْ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِذَلِكَ. قُلْت: أَمَّا الِانْحِصَارُ فَفِيهِ تَعَرُّضٌ لِبُطْلَانِهِ بِقَوْلِهِ: وَوُقِفَ مَالُ غَرِيمِهِ حَتَّى يُبَاعَ رَهْنُهُ، وَلَوْ كَانَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِعَيْنِ الْمَرْهُونِ لَمْ يُوقَفْ مَالُ غَرِيمِهِ حَتَّى يُبَاعَ رَهْنُهُ إذْ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا فِي الذِّمَّةِ، وَالرَّهْنِ، وَأَمَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَهُوَ جَوَازُ بَيْعِ الرَّهْنِ فَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لَهُ، فَإِنْ قُلْت: قَوْلَهُ: إذَا أَرَادَ أَنْ يُحَاصَّهُمْ قَبْلَ بَيْعِ رَهْنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاعُ غَيْرُ الرَّهْنِ.
قُلْت: لَا بَلْ؛ لِأَنَّهُ مَتَى حَاصَّهُمْ قَبْلَ بَيْعِ رَهْنِهِ مَعَ بَقَاءِ رَهْنِهِ ظَلَمَهُمْ بِأَخْذِ زِيَادَةٍ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ غَرِيمَانِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا خَمْسُونَ لِأَحَدِهِمَا رَهْنٌ، وَالْمَالُ كُلُّهُ تِسْعُونَ، وَالرَّهْنُ مِنْهَا أَرْبَعُونَ، فَإِذَا قَدَّمْنَا الْمُرْتَهِنَ أَخَذَ أَرْبَعِينَ وَسُدُسَ الْبَاقِي، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ، وَلَوْ جَوَّزْنَا لَهُ الْمُحَاصَّةَ أَوَّلًا لَأَخَذَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَكَمَالُ دَيْنِهِ عَلَى الرَّهْنِ، وَذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى الْغَرِيمِ الْآخَرِ.
فَإِنْ قُلْت: الْغَرِيمُ الْآخَرُ لَا حَقَّ لَهُ فِي الرَّهْنِ، وَالْمُرْتَهِنُ لَا حَقَّ لَهُ فِي غَيْرِ الرَّهْنِ مِنْ أَعْيَانِ الْمُفْلِسِ. قُلْت: بَلَى، فَإِنَّ الْمُرْتَهِنَ يَسْتَحِقُّ مِنْهُ أَنْ يَقْدُمَ بِمِقْدَارِ دَيْنِهِ، وَالْغَرِيمُ الْآخَرُ يَسْتَحِقُّ مِنْهُ مَا سِوَى ذَلِكَ وَيَسْتَحِقُّ الْمُرْتَهِنُ بِمَا لَيْسَ بِرَهْنٍ مَا يَفْضُلُ بِدَيْنِهِ عَنْ الرَّهْنِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ؛ فَلِذَلِكَ تَوَقَّفْنَا عَنْ الْمُحَاصَّةِ، وَالْقِسْمَةِ حَتَّى يُبَاعَ الرَّهْنُ فَلَا تَعَرُّضَ فِي ذَلِكَ لِمَسْأَلَتِنَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فَإِنْ قُلْت
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute