مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا.
وَأَمْرُهُمْ مُتَزَايِدٌ مِنْ لَدُنْ عُرِفَ فِرْعَوْنُ بِبَرَكَةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى أَنْ مَلَكَ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا مَعَ مَا أُوتِيَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْخَصَائِصِ الْعَظِيمَةِ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) تَعْظِيمُ مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ وَشَرَفِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى آتَى دَاوُد وَسُلَيْمَانُ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا لَا يَنْحَصِرُ وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ ذَلِكَ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ إلَّا الْعِلْمَ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ الْأَصْلُ فِي النِّعَمِ كُلِّهَا، فَلَقَدْ كَانَ دَاوُد مِنْ أَعْبَدْ الْبَشَرِ كَمَا صَحَّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَذَلِكَ مِنْ آثَارِ عِلْمِهِ وَجَمَعَ اللَّهُ لَهُ وَلِابْنِهِ سُلَيْمَانَ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ لِأَحَدٍ، وَجَعَلَ الْعِلْمَ أَصْلًا لِذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَشَارَا هُمَا أَيْضًا إلَى هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِمَا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل: ١٥] عَقِيبَ قَوْلِهِ {آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل: ١٥] وَمَا يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمَا شَكَرَا مَا آتَاهُمَا إيَّاهُ وَأَنَّ سَبَبَ التَّفْضِيلِ هُوَ الْعِلْمُ، وَإِنَّمَا قَالَ (وَقَالَا) بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِالْفَاءِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِك فَشُكْرًا، وَيَكُونُ الشُّكْرُ حِينَئِذٍ هُوَ قَوْلُهُمَا ذَلِكَ لَا غَيْرُ، فَعَدَلَ إلَى الْوَاوِ لِيُشِيرَ إلَى الْجَمْعِ فِي الْإِيتَاءِ لَهُمَا بَيْنَ الْعِلْمِ وَقَوْلِهِمَا ذَلِكَ الْمُحَقِّقَ لِمَقْصُودِ الْعِلْمِ مِنْ الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْعِبَادَةِ وَكُلِّ خَصْلَةٍ حَمِيدَةٍ؛ فَلِذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ مَسَائِلُ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ مِنْهَا: أَنَّ فَضْلَ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ، وَلِهَذَا مِدَادُ الْعُلَمَاءِ أَفْضَلُ مِنْ دَمِ الشُّهَدَاءِ وَأَعْظَمُ مَا عِنْدَ الْمُجَاهِدِ دَمُهُ وَأَهْوَنُ مَا عِنْدَ الْعَالَمِ مِدَادُهُ، فَمَا ظَنُّك بِأَشْرَفِ مَا عِنْدَ الْعَالَمِ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالتَّفَكُّرِ فِي آلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي تَحْقِيقِ الْحَقِّ وَبَيَانِ الْأَحْكَامِ وَهِدَايَةِ الْخَلْقِ. وَلِذَلِكَ جُعِلُوا وَرَثَةَ الْأَنْبِيَاءِ.
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ. فَمَنْ أَخَذَهُ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل: ١٦] .
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) فِي قَوْلِهِ {دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [النمل: ١٥] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ أَوْ نَقِيضَهُ، بَلْ هِيَ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مِنْ مُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْلُومُ أَنَّ إيتَاءَ دَاوُد قَبْلَ إيتَاءِ سُلَيْمَانَ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ وَرَدَتْ الْوَاوُ فِيهِ مِمَّا يُعْلَمُ التَّرْتِيبُ فِيهِ مِنْ خَارِجٍ كَهَذِهِ الْآيَةِ لَنَا فِيهِ طَرِيقَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنْ تَكُونُ مُسْتَعْمَلَةً
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute