للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى الْوَقْتِ وَالْحَالِ مَعًا كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلَّا وَقْتَ الْإِذْنِ وَلَا تَدْخُلُوهَا إلَّا غَيْرَ نَاظِرِينَ. فَوَرَدَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءَ شَيْئَيْنِ:

وَهُمَا الظَّرْفُ وَالْحَالُ بِأَدَاةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ مَنَعَهُ النُّحَاةُ أَوْ جُمْهُورُهُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ مَا قَالَ ذَلِكَ إلَّا تَفْسِيرَ مَعْنًى، وَقَدْ قَدَّرَ أَدَاتَيْنِ؛ وَهُوَ مِنْ جِهَةِ بَيَانِ الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُ وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى الْوَقْتِ وَالْحَالِ مَعًا مِنْ جِهَةِ الصِّنَاعَةِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُفَرَّغَ يُعْمِلُ مَا قَبْلَهُ فِيمَا بَعْدَهُ وَالْمُسْتَثْنَى فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمَصْدَرُ الْمُتَعَلِّقُ بِالظَّرْفِ وَالْحَالِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا تَدْخُلُوا إلَّا دُخُولًا مَوْصُوفًا بِكَذَا.

وَلَسْت أَقُولُ بِتَقْدِيرِ مَصْدَرٍ هُوَ عَامِلٌ فِيهِمَا فَإِنَّ الْعَمَلَ لِلْفِعْلِ الْمُفَرَّغِ؛ وَإِنَّمَا أَرَدْت شَرْحَ الْمَعْنَى وَمِثْلُ هَذَا الْإِعْرَابِ هُوَ الَّذِي سَنَخْتَارُهُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: ١٩] فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ وَالْحَالُ لَيْسَتَا مُسْتَثْنَيَيْنِ بَلْ يَقَعُ عَلَيْهَا الْمُسْتَثْنَى، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ، كَمَا تَقُولُ مَا قُمْت إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ضَاحِكًا أَمَامَ الْأَمِيرِ فِي دَارِهِ.

فَكُلُّهَا يَعْمَلُ فِيهَا الْفِعْلُ الْمُفَرَّغُ مِنْ جِهَةِ الصِّنَاعَةِ وَهِيَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهَا بِمَجْمُوعِهَا بَعْضٌ مِنْ الْمَصْدَرِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْفِعْلُ الْمَنْفِيُّ وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ أَنْ يُقَدَّرَ اخْتَلَفُوا بَغْيًا بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُفِيدُ الْحَصْرَ وَعَلَى مَا قُلْنَاهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ فِيهِ كَمَا أَفَادَهُ فِيهِ قَوْلُهُ {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [آل عمران: ١٩] فَهُوَ حَصْرٌ فِي شَيْئَيْنِ وَلَكِنْ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَاهُ لَا أَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ شَيْئَيْنِ بَلْ شَيْءٍ وَاحِدٍ صَادِقٍ عَلَى شَيْئَيْنِ وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلَى ذَلِكَ فَقَوْلُهُ وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى الْوَقْتِ وَالْحَالِ مَعًا صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى أَعَمَّ لِأَنَّ الْأَعَمَّ يَقَعُ عَلَى الْأَخَصِّ وَالْوَاقِعُ عَلَى الْوَاقِعِ وَاقِعٌ فَيَخْلُصُ عَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِ النُّحَاةِ لَا يُسْتَثْنَى بِأَدَاةٍ وَاحِدَةٍ - دُونَ عَطْفٍ - شَيْئَانِ، وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ فِي قَوْلِهِ إنَّهَا حَالٌ مِنْ " لَا تَدْخُلُوا " أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ؛ إذْ لَا يَقَعُ عِنْدَهُمْ الْمُسْتَثْنَى بَعْدَ " إلَّا " فِي الِاسْتِثْنَاءِ إلَّا الْمُسْتَثْنَى أَوْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَوْ صِفَةُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ.

وَأَجَازَ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ ذَلِكَ فِي الْحَالِ، وَعَلَى هَذَا يَجِيءُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهَذَا الْإِيرَادُ عَجِيبٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُرَادَ الزَّمَخْشَرِيِّ " لَا تَدْخُلُوا غَيْرَ نَاظِرِينَ " حَتَّى يَكُونَ الْحَالُ قَدْ تَأَخَّرَ بَعْدَ أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ وَالْكِسَائِيِّ. وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُ حَالٌ مِنْ " لَا تَدْخُلُوا " لِأَنَّهُ مُفَرَّغٌ فَيَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ، كَمَا فِي قَوْلِك مَا دَخَلْت إلَّا غَيْرَ نَاظِرٍ.

فَلَا يَرُدُّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ إلَّا اسْتِثْنَاءُ شَيْئَيْنِ وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَاهُ. وَحَاصِلُهُ تَقْيِيدُ إطْلَاقِهِمْ لَا يُسْتَثْنَى بِأَدَاةٍ وَاحِدَةٍ - دُونَ عَطْفٍ - شَيْئَانِ بِمَا إذَا كَانَ الشَّيْئَانِ لَا يَعْمَلُ الْفِعْلُ فِيهِمَا إلَّا بِعَطْفٍ، أَمَّا إذَا كَانَ عَامِلًا فِيهِمَا بِغَيْرِ عَطْفٍ فَيَتَوَجَّهُ الِاسْتِثْنَاءُ

<<  <  ج: ص:  >  >>