للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال: "تُوفيتْ أهلي فاشتغلتُ بها".

قال الشيخ: "هلا أخبرتنا فشهدناها". ثم أخذ يفيض في الكلام عن الدنيا والآخرة؛ وشعر ابن أبي وداعة أن القبر ما يزال في قلبه حتى في مجلس الشيخ، فأراد أن يقوم، فقال "سعيد":

"هل استحدثت امرأة غيرها؟ ".

قال: "يرحمك الله، أين نحن من الدنيا اليوم، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ ".

قال الشيخ: "أنا.....".

أنا، أنا، أنا. دوى الجو بهذه الكلمة في أذن طالب العلم الفقير، فحسب كأن الملائكة تنشد نشيدًا في تسبيح الله يَطِن ّلحنه: "أنا، أنا، أنا".

وخرجت الكلمة من فم الشيخ ومن السماء لهذا المسكين في وقت واحد، وكأنها كلمة زوجته إحدى الحور العين.

فلما أفاق من غشية أذنه, قال: "وتفعل؟ ".

قال "سعيد": "نعم" وفسر "نعم" بأحسن تفسيرها وأبلغه؛ فقال: قم فادع لي نفرًا من الأنصار, فلما جاءوا حمد الله وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- وزوجه على ثلاثة دراهم "خمسة عشر قرشًا".

ثلاثة دراهم مهر الزوجة التي أرسل يخطبها الخليفة العظيم لولي عهده بثقلها ذهبًا لو شاءت.

وغشَّى الفرح هذه المرة عيني الرجل وأذنيه، فإذا هو يسمع نشيد الملائكة يطن لحنه: "أنا، أنا، أنا".

ولم يشعر أنه على الأرض، فقام يطير، وليس يدري من فرحه ما يصنع، وكأنه في يوم جاءه من غير هذه الدنيا يتعرف إليها بهذا الصوت الذي لا يزال يطن في أذنيه: "أنا، أنا، أنا".

وصار إلى منزله وجعل يفكر: ممن يأخذ؟ ممن يستدين؟ فظهرت له الأرض خلاء من الإنسان، وليس فيها إلا الرجل الواحد الذي يضطرب صوته في أذنيه: "أنا، أنا، أنا".

وصلى المغرب وكان صائمًا، ثم قام فأسرج، فإذا سراجه الخافت الضئيل يسطع لعينيه سطوع القمر، وكأن في نوره وجه عروس تقول له: "أنا، أنا، أنا".

<<  <  ج: ص:  >  >>