وقدم عشاءه ليُفطر، وكان خبزًا وزيتًا، فإذا الباب يقرع؛ قال: من هذا؟ قال الطارق: سعيد.
سعيد؟ سعيد؟ من سعيد؟! أهو أبو عثمان؛ أبو علي؛ أبو الحسن؟ فكر الرجل في كل من اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب؛ إلا الذي قال له:"أنا".
لم يخالجه أن يكون هو الطارق، فإن هذا الإمام لم يطرق باب أحد قط، ولم ير منذ أربعين سنة إلا بين داره والمسجد.
ثم خرج إليه، فإذا به سعيد بن المسيب، فلم تأخذه عينه حتى رجع القبر فهبط فجأة بظلامه وأمواته في قلب المسكين، وظن أن الشيخ قد بدا له، فندم، فجاءه للطلاق قبل أن يشيع الخبر، ويتعذر إصلاح الغلطة! فقال:"يا أبا محمد، لو ... لو ... لو أرسلتَ إليَّ لأتيتُك! ".
قال الشيخ:"لأنت أحق أن تُؤتَى".
فما صكّت الكلمة سمع المسكين حتى أَبْلَس الوجود في نظره، وغشي الدنيا صمت كصمت الموت، وأحس كأن القبر يتمدد في قلبه بعروق الأرض كلها! ثم فاء لنفسه، وقدر أن ليس محل شيخه إلا أن يأمر، وليس محله هو إلا أن يطيع، وأن من الرجولة ألا يكون معرّة على الرجولة، ثم نكَس وتنكَّس وقال بذِلة ومسكنة:"ما تأمرني؟ ".
تفتحت السماء مرة ثالثة، وقال الشيخ:"إنك كنت رجلًا عزبًا فتزوجت، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك؛ وهذه امرأتك! ".
وانحرف شيئًا، فإذا العروس قائمة خلفه مستترة به، ودفعها إلى الباب وسلم وانصرف.
وانبعث الوجود فجأة، وطن لحن الملائكة في أذن أبي وداعة:"أنا، أنا، أنا".
دخلت العروس الباب وسقطت من الحياء، فتركها الرجل مكانها، واستوثق من بابه، ثم خطا إلى القصعة التي فيها الخبز والزيت، فوضعها في ظل السراج كي لا تراها؛ وأغمض السراج عينه ونشر الظل.
ثم صعد إلى السطح ورمى الجيران بحصيات؛ ليعلموا أن له شأنًا اعتراه، وأن قد وجب حق الجار على الجار "وكانت هذه الحصيات يومئذ كأجراس التليفون اليوم" فجاءوه على سطوحهم وقالوا: "ما شأنك؟ ".