قال أبو عبد الله: والحديث الشريف بعد كل هذا الذي حكيناه يدل على أن الحب متى كان إنسانيًّا جاريًا على قواعد الإنسانية العامة، متسعًا لها غير محصور في الخصوص منها, كان بذلك علاجًا من أمراض الخيال في النفس، واستطاع الإنسان أن يجعل حبه يتناول الأشياء المختلفة، ويرد على نفسه من لذاتها، فإن لم يسعده شيء بخصوصه، وجد أشياء كثيرة تسعده بين السماء والأرض، وإن وقع في صورة امرأته ما لا يعد جمالًا، رأى الجمال في أشياء منها غير الصورة، وتعرّف إلى ما لا يخفى، فظهر له ما يخفى.
وليست العين وحدها هي التي تؤامر في أي الشيئين أجمل، بل هناك العقل والقلب، فجواب العين وحدها إنما هو ثلث الحق. ومتى قيل:"ثلث الحق" فضياع الثلثين يجعله في الأقل حقًّا غير كامل.
فما نكرهه من وجه، قد يكون هو الذي نحبه من وجه آخر، إذ نحن تركنا الإرادة السليمة تعمل عملها الإنساني بالعقل والقلب، وبأوسع النظرين دون أن أضيقهما {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}[النساء: ١٩] .
فوثب ابن أيمن، وأقبل يدور في المجلس مما دخله من طرب الحديث ويقول: ما هذا إلا كلام الملائكة سمعناه منك يابن عمران. قال مسلم: فكيف بك لو سمعته من أبي عبد الله؛ إنه -والله- قد حبب إليَّ السوداء والقبيحة والدميمة، ونظرت لنفسي بخير النظرين، وقلت: إن تزوجت يومًا فما أبالي جمالًا ولا قبحًا، إنما أريد إنسانية كاملة مني ومنها ومن أولادنا، والمرأة في كل امرأة، ولكن ليس العقل في كل امرأة.
قال: ثم إني رجعت إلى البصرة، وآثرت السكنى بها، وتعالم الناس إقبالي، وعلمت أنه لا يحسن بي المقام بغير زوجة، ولم يكن بها أجلّ قدرًا من جد هذين الغلامين، وكانت له بنت قد عضلها وتعرض بذلك لعداوة خُطَّابها؛ فقلت: ما لهذه البنت بد من شأن، ولو لم تكن أكمل النساء وأجملهن، ما ضن بها أبوها رجاوة أن يأتيه من هو أعلى. فحدثتني نفسي بلقائه فيها، فجئته على خلوة.
فقطع عليه ابن أيمن، وقال: قد علمنا خبرها من منظر هذين الغلامين، وإنما نريد من خير تلك الدميمة التي تعشقتَها.
قال: مهلًا فستنتهي القصة إليها, ثم إني قلت: يا عم، أنا فلان بن فلان