أخلاق الثورة حقد الثائرين، وهذا الحقد في قوة حرب وحدها، فلا يكون إلا مادة للأفعال الكثيرة المذمومة. والرجل يحتذي أوروبا ويعمل على أعمال الأوروبيين في خيرها وشرها، ويجعل رذائلهم من فضائلهم على رغم أنفهم، يتبرءون منها ويُلحقها هو بقومه، فكأنه يعتنف الآراء ويأخذها أخذًا عسكريًّا، ليس في الأمر إلا قوله "أريد" فيكون ما يريد. هو لم يحكم على شبر من أوروبا يجعله تركيًّا، ولكنه جعل رذائل أوروبا تتجنس بالجنسية التركية.
وتالله, إنه لأيسر عليه أن يجيء بملائكة أو شياطين من المَرَدَة، ينفخون أرض تركيا فيَمُطونها مطًّا فيجعلونها قارة، من أن يكره أوروبا على اعتبار قومه أوروبيين بلبس قبعة وهدم مسجد. إنه لا يزال في أول التاريخ, وهذا الشعب الذي انتصر به لم تلده مبادئه، ولا أنشأه هدم العلماء؛ بل هو الذي ولدته تلك الأمهات، وأخرجه أولئك الآباء، وما كان يعوزه إلا القائد الحازم المصمم، فلما ظفر بقائده جاء بالمعجزة؛ فإذا فُتن القائد بنفسه وأبى إلا أن يتحول نبيًّا، فهذا شيء آخر له اسم آخر.
ولنفرض "الأثير" كما يقول العلماء؛ لنستطيع أن نجعل مسألتنا هذه علمية، وأن نبحثها بحثًا علميًّا، فليكن مصطفى كمال هو اللورد كتشنر في إنجلترا؛ فيكسب اللورد كتشنر تلك الحرب العظمى لا حرب الدويلة الصغيرة، وينتصر على البراكين من الجيوش لا على مثل براميل النبيذ. ثم يستعز الرجل بدالَّته على قومه، ويدخله الغرور، فيتصنع لهم مرة، ويتزين لهم مرة، ثم يأتيهم بالآبدة فيسفه دينهم، ويريدهم على تعطيل شعائرهم وهدم كنائسهم؛ لأن هذا هو الإصلاح في رأيه. أفترى الإنجليز حينئذ يضوون إليه ويلتفون حوله ويقولون: قائدنا في الحرب، ومصلحنا في السلم, وقد انتصرنا به على الناس فسننتصر به على الله، وظفرنا معه بيوم من التاريخ فسنظفر معه بالتاريخ كله؟ أم تحسب كتشنر كان يجسر على هذا وهو كتشنر لم يتغير عقله؟
إنه -والله- ما يتدافع اثنان أن هدم كنيسة واحدة يومئذ لا يكون إلا هدم كتشنر وتاريخ كتشنر، ولكن العجز ممهَّد من تلقاء نفسه، والأرض المنخسفة هي التي يستنقع فيها الماء، فله فيها اسم ورسم؛ أما الجبل الصخري الأشم، فإذا صب هذا الماء عليه أرسله من كل جوانبه، وأفاضه إلى أسفل! ١.
١ أفردنا مقالًا خاصًّا لهذا الإلحاد التركي الذبابي, فقد عثرنا في النسخة الخطية التي عندنا من "كليلة ودمنة" على فصل بديع عنوانه: "كفر الذبابة" تقرؤه، في الجزء الثاني من هذا الكتاب.