للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فتمد له في الغيّ مدًّا. ثم تنتهي هي أيضًا إلى نهايتها، وتئول إلى حقائقها؛ فإذا كل ذلك قد داخل بعضه، وإذا الشر لا يقف عندما كان عليه، وإذا البلاء ليس في نوع واحد بل أنواع.

ما يرتاب أحد في نية قاسم أمين، ولا نزعم أن له خَفِية سوء أو مضمر شر فيما دعا إليه من تلك الدعوة، ولكني أنا أرتاب في كفايته لما كان أخذ نفسه به وأراه قد تكلف ما لا يحسن، وذهب يقول في تأويل القرآن وهو لا ينفذ إلى حقائقه، ولا يستبطن أسرار عربيته، وكان مناظروه في عصره قومًا ضعفاء, فاستعلاهم بضعفهم لا بقوته، وكانت كلمة الحجاب قد انتفخت في ذهنه بعد أن أفرغت معانيها الدقيقة، فأخذها ممتلئة وجاء بها فارغة، وقال للنساء: غيرن وبدلن. فلما أطعنه وبدلن وغيرن، وجاء الزمن بما يفسر الكلمة من حقائقه وتصاريفه لا من خيالات المتخيل أو المتشيع, إذا معنى التغيير والتبديل هو ما رأيت، وإذا الحجاب الأول على ضلاله كان نصف الشر، وإذا المرأة التي ربحت الشارع هي التي خسرت الزوج! وإذا تلك الدعوة لم تكن نفيًا للحجاب عن المرأة، ولكن نفيًا للمرأة ذاتها وراء حدود الأسرة، كأنها مجرمة عوقبت على فساد سياستها؛ وهي قارة في بيتها ولكنها مع ذلك منفية من مستقبلها.

كانوا يحتجون لنفي الحجاب بالفلَّاحات في سفورهن؛ وغفلوا أقبح الغفلة عن السبب الطبيعي في ذلك, وهو أن السفور إنما عمهن من كونهن لسن في المنزلة الاجتماعية أكثر من بهائم إنسانية مؤنثة؛ ومثل هذا السفور لا يكون على طبيعته تلك إلا في اجتماع طبيعي فطري أساسه الخلط في الأعمال لا التمييز بينها، والاشتراك في شيء واحد هو كسب القوت١ لا الانفراد بما فوق ذلك من أشياء النفس.

ولستُ أرى هذه اللجاجة، أو "الحيوية الصارخة" التي ثارت بفتياتنا, إلا تمردًا من طبيعتهن على الأحوال الظالمة المتصرفة بها؛ ويحسبنه توسعًا من الطبيعة في الحرية، وطلبًا للعالم كله بعد الشارع، وللحقوق كلها بعد نبذ الحجاب؛ وهو في الحقيقة ليس إلا ثورة الطبيعة النسوية على خيبتها مما أصابت من الحرية والشارع والعالم والحقوق، ورغبة منها في أن تحد بحدودها ويؤخذ منها العالم كله بما فيه، وتعطى البيت وحده بما فيه.


١ ولهذا لا يكاد يغتني الفلاح ولو أيسر الغنى، حتى يصون امرأته ويحجبها ويرتفع بمعناها في نفسه.

<<  <  ج: ص:  >  >>