فأحسنت ما شاءت، وكأن في رقصها تعبيرًا عن أهواء ونزعات تريد إثارتها في رجل ما, فقلت لصاحبنا الأستاذ "ح": إن كلمة الرقص إنما هي استعارة على مثل هذا، كما يستعرْنَ كلمة الحب لجمع المال؛ ولا رقص ولا حب إلا فجور وطمع.
ثم إنها فرغَتْ من شأنها فمرت تتهادى حتى جاءت فجلست إلى الفتى ... فقال الأستاذ "ح" وكان قد ألمّ بما في نفسها: أتُراها جعلته ههنا محطة؟
قال الراوي: أما أنا فقلت في نفسي: لقد جاء الموضوع ... وإني لفي حاجة -أشد الحاجة- إلى مقالة من المكحولات، فتفرغت لها أنظر ماذا تصنع، وأنا أعلم أن مثل هذه قليلًا ما يكون لها فكر أو فلسفة؛ غير أن الفكر والفلسفة والمعاني كلها تكون في نظرها وابتساماتها وعلى جسمها كله.
وكان فتاها قد وضع طربوشه على يده؛ فقد انتهينا إلى عهد رجع حكم الطربوش فيه على رأس الشاب الجميل، كحكم البرقع على وجه الفتاة الجميلة.
فأسفر ذاك من طربوشه، وأسفرت هذه من نقابها. قال الراوي: فما جلستْ إلى الفتى حتى أدنت رأسها من الطربوش، فاستنامت إليه، فألصقت به خدها.
ثم التفتت إلينا التفاتة الخِشْف المذعور استروح السَّبُع١ ووجد مقدماته في الهواء، ثم أرخت عينيها في حياء لا يستحي.
وأنشأت تتكلم وهي في ذلك تسارقنا النظر، كأن في ناحيتنا بعض معاني كلامها.
ثم لا أدري ما الذي تضاحكتْ له، غير أن ضحكتها انشقت نصفين، رأينا نحن أجملهما في ثغرها.
ثم تزعزعت في كرسيها كأنما تهم أن تنقلب؛ لتمتد إليها يد فتمسكها أن تنقلب.
ثم تساندت على نفسها، كالمريضة النائمة تتناهض من فراشها فيكاد يَئِنّ بعضها من بعضها، وقامت فمشت، فحاذتنا، وتجاوزتنا غير بعيد، ثم رجعت إلى موضعها متكسرة كأن فيها قوة تعلن أنها انتهت.
قال الراوي:
ونظرتُ إليها نظرة حزن؛ فتغضبت واغتاظت، وشاجرت هذه النظرة من
١ الخشف: ولد الغزال، يطلق على الذكر والأنثى. واستروح السبع أي: وجد ريحه في الهواء قبل أن يراه، وكذلك طبيعة الحيوان.