قال جحا في نفسه: لقد احتجت لعقلي بين هذين الأبلهين؛ ثم إنه أدخل يده في جيبه وأخرجها مطبقة، وقال للرجل: تقدم وافتح يدي, فتقدم وفتحها. قال جحا: ماذا فيها؟ قال الرجل:"لا شيء".
فقال له جحا: خذ "لا شيئك" وامض, فقد برئت ذمتي.
قالوا: فذهب الرجل يحتج، فقال له القاضي: مَهْ! أنت أقررت أنك رأيت في يده "لا شيء"، وهو أجرك فخذه ولا تطمع في أزيد من حقك!
وضحكتْ وضحكنا، ثم قالت: أنا راضية أن أكون عروس القلم، فليُجْرِ علي القلم نفقتي، وليُصوِّرْ لي كيف أحببت، وكيف آمرت نفسي وجادلتها؟
قلت: لا أتكلم عنكِ أنتِ ولا أستطيعه. بيد أنني لو صنفت رواية يكون فيها هذا الموقف، لوضعت على لسان العاشقة هذا الكلام تحدث به نفسها.
تقول: كيف كنت وكيف صرت؟ لقد رأيتني أعاشر مائة رجل فأخالطهم في شتى أحوالهم، وأصرفهم في هواي، وكلهم يجهد جهده في استمالتي، وكلهم أهل مودة وبذل، وما منهم إلا جميل مخلص، قد أَنِق وتجمل وراع حسنه؛ كأنما هرب إلي في ثياب عرسه ليلة زفافه، وترك من أجلي عروسًا تبكي وتصيح بوَيْلها. ثم أنا مع ذلك مغلقة القلب دونهم جميعًا: أَصْدُقُهم المودة والصحبة، وأكذبهم الحب والهوى؛ فلست أحبهم إلا بما أنال منهم، ولست أتحبب إليهم إلا ما أُنَوِّلهم مني، وهم بين عقلي وحيلتي رجال لا عقول لهم، وأنا بين أهوائهم وحماقاتهم امرأة لا ذات لها.
ثم أرى بغتة رجلًا فردًا, أكاد أنظر إليه وينظر إلي حتى يضع في قلبي مسألة تحتاج إلى الحل.
وأرتاع لذلك فأحاول تناسيه والإغضاء عنه، فتلِجّ المسألة في طلب حلها، وتشغَل خاطري، وتتمدد في قلبي؛ وهو هو المسألة.
فأفزع لذلك وأهتم له، وأجهد جهدي أن أكون مرة حازمة بصيرة، كرجال المال في حق الثروة عليهم؛ ومرة قاسية عنيدة، كرجال الحرب في واجبها عندهم؛ ومرة خبيثة منكرة، كرجال السياسة في عملها بهم؛ ولكني أرى المسألة تلين لي وتتشكَّل معي وتحتمل هذه الوجوه كلها، لتبقى حيث هي في قلبي؛ فإنه هو هو المسألة.