للمخاطبة مع الأفلاك، وفيهم من تقع له العجائب في استحضار الأرواح وتسخيرها؛ وكل ذلك أول البرهان الكوني الذي سيلزم العلم فيضطره في يوم ما إلى الإقرار بصحة الإسراء والمعراج.
ونحن قبل أن نبدي رأينا في القصة نلم بها إلمامة موجزة؛ فقد اختلفت فيها الأحاديث ووقع فيها تخليط كثير، فجاءت فنونا وأنواعا من طرق شتى، حتى جمعها بعضهم في جزأين١، وما تحتمل كل ذلك ولا بعضه، ولكن روح الرواية في ذلك الزمن كانت كروح الصحافة في هذا العصر: متى فارت فورها استحدثت من كل عبارة عبارة أخرى، وعلى هذه الطريقة تخرج من العبارتين عبارة ثالثة، فيكون الأصل معنى واحد وإذا هو يمد من يمينه ويساره.
ولا يرون بذلك بأسا؛ فإنهم يشدون به الرأي، ويضاعفون منه اليقين، ويزيدون ضوءًا في نور المعنى، وما داموا قد أثبتوا الأصل واستيقنوه، فلا حرج أن يؤيد القول بعضه بعضا, باجتهاد في عبارة, واستنباط من أخرى, وزيادة في الثالثة مما هو بسبيل منها، على نحو ما نرى من فن الرواية القصصية؛ إذ تتعدد الأساليب والعبارات مختلفة متنوعة، وليس تحتها إلا حقيقة واحدة لا تختلف، والقصص الديني في هذه اللغة العربية فن كامل قائم بنفسه, ولا يبدع العقل والخيال والعاطفة أقوى منه ولا أعجب ولا أغرب.
هذا في متن القصة، أما في واقعتها فقد اختلفوا اختلافًا آخر: هل كان الإسراء والمعراج يقظة أو منامًا؟ وبالروح وحدها، أو بالروح والجسم معا؟ وإنما ذكرنا هذا الخلاف لأنه الدليل القاطع على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر بشيء من ذلك, فلم يعين لهم وجها من هذه الأوجه، والحكمة في ذلك أن عقولهم لم تكن تحتمل الإدراك العلمي الذي أساسه ما عرف اليوم من أمر الكهرباء والأثير.
والخلاصة التي تتأدى من القصة: أنه صلى الله عليه وسلم كان مضطجعًا، فأتاه جبريل، فأخرجه من المسجد، فأركبه البراق، فأتى بيت المقدس، ثم دخل المسجد فصلى فيه، ثم عرج به إلى السموات، فاستفتحها جبريل واحدة واحدة، فرأى فيها من آيات ربه، واجتمع بالأنبياء -صلوات الله عليهم- وصعد في سماء بعد سماء إلى سدرة المنتهى، فغشيها من أمر الله ما غشيها، فرأى صلى الله عليه وسلم مظهر الجمال الأزلي، ثم زج به في النور فأوحى الله إليه ما أوحى.
١ قال الذهبي: إن الحافظ عبد الغني جمع أحاديث الإسراء في جزأين.