للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما وشي القصة وطرازها فباب عجيب من الرموز الفلسفية الإنسانية التي يرمز بها إلى تجسيد الأعمال في هذه الحياة: تكون تعبا وتقع فائدة، أو تلتمس منفعة وشهوة وتقع مضرة وحماقة، ثم تفنى من هذه وتلك الصورة الزمنية التي توهمها أصحابها، وتخلد الصور الأبدية التي جاءت بها حقائقها.

ومن هذه الرموز البديعة قوله: "فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فأخذت اللبن، فقال جبريل: أخذت الفطرة". وأنه مر على قوم يزرعون ويحصدون في كل يوم، كلما حصدوا عاد كما كان؛ فسأل: "ما هذا؟ " , قال جبريل: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله، تضاعف لهم الحسنة سبعمائة ضعف. ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذلك شيء؛ فقال: "ما هذا؟ " , قال جبريل: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة. ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدر، ولحم آخر نيئ في قدر خبيث، فجعلوا يأكلون من النيئ الخبيث ويدعون النضيج؛ فقال: "ما هؤلاء؟ " ,قال جبريل: هذا الرجل تكون عنده المرأة الحلال الطيب فيأتي امرأة خبيثة، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا فتأتي رجلا خبيثا. ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها، فقال: "ما هذا يا جبريل؟ " , قال: هذا الرجل تكون عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها وهو يريد أن يحمل عليها. ثم رأى نساء معلقات بثديهن؛ فسأل، فقال جبريل: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم.

ونحن على الرأي الذي عليه جمهور العلماء: من أن الإسراء والمعراج كانا بالجسم والروح معا على التأويل الذي سنبينه؛ ويثبت ذلك قوله -تعالى- في سورة "والنجم": {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: ١٧] . فلا يكون البصر يزيغ ويطغى إلا في الجسم، ولا ينتفي عنه ذلك إلا وهو في الجسم. ولم يتنبه أحد من المفسرين إلى المعنى المعجز العجيب في قوله: {وَمَا طَغَى} [النجم: ١٧] ؛ فذلك نص على أنه كان يرى بجسم قد تحول عن الطبيعة الآدمية المحدودة فليس فيه منها شيء؛ إذ لا يكون طغيان البصر إلى من تسلط الخيال عليه بأهواء الجسم التي لا يستقيم بها حكم على حقيقته, فما زاغ البصر بكونه مقيد الحاسة، ولا طغى بكونه مطلق الخيال، بل كان كما يريه الله من آياته، أي كان حقيقة كونية في غير حالتها الأرضية الناقصة.

<<  <  ج: ص:  >  >>