تبلع. فحضرني هذا القول تلك الساعة وشبه لي، واعتقدت أن هذا الإنسان شيء حقير في الغاية من الهوان والضعة: حملته أمه كرها، وأثقلت به كرها، ووضعته كرها؛ وهو من شؤمه عليها إذا دنا لها أن تضع لم يخرج منها حتى يضربها المخاض فتتقلب وتصيح وتتمزق وتنصدع؛ وربما نشب فيها فقتلها، وربما التوى فيبقر بطنها عنه. وإذا هي ولدته على أي حاليها من عسر وتطريق بمثل المطارق المحطمة، أو سراح ورواح كما يتيسر؛ فإنما تلده في مشيمة ودماء وقذر من الأخلاط كأنما هو خارج من جرح، ثم تتناوله الدنيا فتضعه من معانيها في أقبح وأقذر من ذلك كله. ثم يستوفي مدته فيأخذه القبر فيكون شرا عليه في تمزيقه وتعفينه وإحالته.
قال: وحضرني مع كلمة الجاهلية قول ذلك الجاهل الزنديق الذي يعرف "بالبقلي" إذ كان يزعم أن الإنسان كالبقلة، فإذا مات لم يرجع، وقلت لنفسي: إنما أنت بقلة حمقاء ذواية في أرض نشاشة١، فقتلها ملح أرضها أكثر مما أحياها.
قال: وثرت إلى المدية أريد أن أتوجأ بها, فتبادرني المرأة وتحول بيني وبينها، وأكاد أبطش بها من الغيظ، وكانت روح الجحيم تزفر من حولي لو سمعوا سمعوا لها شهيقا وهي تفور؛ فما أدري أي ملك هبط بوحي الجنة في لسان امرأتي.
قلت لها: إنها عزمة مني أن أقتل نفسي.
قالت: وما أريد أن أنقضها ولست أردك عنها وستمضيها.
قلت: فخلي بين نفسي وبين المدية.
قالت: كلنا نفس واحدة أنا وأنت والصبي فلنقض معا؛ وما بنفسي عن نفسك رغبة ولا تدع الصبي يتيما يصفعه من يطعمه، ويضربه ابن هذا وابن ذاك إذ لا يستطيع أن يقول في أولاد الناس أنا ابن ذلك ولا ابن هذا.
قلت: هذا هو الرأي.
قالت: فتعال اذبح الطفل.
قال المسيب بن رافع: وما بلغ الرجل في قصته إلى ذبح صغيره حتى ضج الناس ضجة منكرة؛ وتوهم كل أب منهم أن طفله الصغير ممدد للذبح وهو ينادي أباه ويشق حلقه بالصراخ: يا أبي يا أبي؛ أدركني يا أبي.
١ الأرض النشاشة: هي السبخة التي فيها الملح والماء.