أما الإمام فدمعت عيناه وكنت بين يديه فسمعته يقول: إنا لله، كيف تصنع جهنم حطبها؟
وأنا فما قط نسيت هذه الكلمة، وما قط رأيت من بعدها كافرًا ولا فاسقًا فاعتبرت أعماله إلا كان كل ذلك شيئًا واحدًا هو طريقة صنعته حطبًا ... كأن الشيطان لعنه الله يقول لأتباعه: جففوه.
وكانت هنيهات، ثم فاء الناس ورجعوا إلى أنفسهم وصاحوا بالمتكلم: ثم ماذا؟
قال الرجل: ففتحت عيني وقلبي معًا ورمقت الطفل المسكين الذي لا يملك إلا يديه الضعيفتين؛ ونظرت إلى مجرى السكين من حلقه وإلى محزها في رقبته اللينة؛ ورأيته كأنما تفرق بصره من الفزع على كل جهة، ورأيته يتضرع لي بعينيه الباكيتين ألا أذبحه، ورأيته يتوسل بيديه الصغيرتين كأنه عرف أنه مني أمام قاتله، ثم خيل إلي أنه يتلوى وينتفض ويصرخ من ألم الذبح تحت يد أبيه؛ تحت يد أبيه التعس.
يا ويلتاه! لقد أخذني ما كان يأخذني لو تهدمت السماء على الأرض، وحسبت الكون كله قد انفجر صراخًا من أجل الطفل الضعيف الذي ليس له إلا ربه أمام القاتل.
فهرولت مسرعًا وتركت الدار والمرأة والصبي وأنا أقول يا أرحم الراحمين. يا من خلق الطفل عالمه أمه وأبوه وحدهما وباقي العالم هباء عنده. يا من دبر الرضيع فوهبه ملكا ومملكة وغنى وسرورًا وفرحا، كل ذلك في ثدي أمه وصدرها لا غير يا إلهي! أنسني مثل هذا النسيان، وارزقني مثل هذا الرزق، واكفلني بمثل هذا التدبير فإني منقطع إلا من رحمتك انقطاع الرضيع إلا من أمه.
قال الرجل: ولقد كنت مغرورًا كالجيفة الراكدة تحسب أنها هي تفور حين فارت حشراتها. ولقد كنت أحقر من الذباب الذي لا يجد حقائقه, ولا يلتمسها إلا في أقذر القذر.
وما كدت أمضي كما تسوقني رجلاي حتى سمعت صوتا نديا مطلولا يرجع ترجيع الورقاء في تحنانها وهو يرتل هذه الآية: