قال: فوقفت أسمع وماذا كنت أسمع؟ هذه شعل لا كلمات، أحرقت كل ما كان حولي ولمست مصباح روحي المنطفئ فإذا هو يتوهج، وإذا الدنيا كلها تتوهج في نوره، وارتفعت نفسي عن الجدب الذي كنت فيه وكأنما لفتني سحابة من السحب، ففي روحي نسيم الماء البارد ورائحة الماء العذب.
لعن الله هذا الاضطراب الذي يبتلى الخائف به. إننا نحسبه اضطرابا وما هو إلا اختلاط الحقائق على النفس وذهاب بعضها في بعض، وتضرب الشر في الخير والخير في الشر حتى لا يبين جنس من جنس، ولا يعرف حد من حد، ولا تمتاز حقيقة من حقيقة. وبهذا يكون الزمن على المبتلى كالماء الذي جمد لا يتحرك ولا يتساير. فيلوح الشر وكأنه دائما لا يزال في أوله ينذر بالأهوال، وقد يكون هوله انتهى أو يوشك.
قال الرجل: وكنت أرى يأسي قد اعترى كل شيء، فامتد إلى آخر الكون وإلى آخر الزمن؛ فلما سكن ما بي إذا هو قد كان يأس يوم أو أيام في مكان من الأمكنة؛ أما ما وراء هذه الأيام وما خلف هذا المكان، فذلك حكمة حكم الشمس التي تطلع وتغيب على الدنيا لإحيائها، وحكم الماء الذي تهمي السماء به ليسقي الأرض وما عليها، وحكم استمرار هذه الأجرام السماوية في مدارها ولا تمسكها ولا تزنها إلا قوة خالقها.
أين أثر الإنسان الدنيء الحقير في كل ذلك؟ وهل الحياة إلا بكل ذلك؟
وما الذي في يد الإنسان العاجز من هذا النظام كله فيسوغ له أن يقول في حادثة من حوادثه إن الخير لا يبتدئ وإن الشر لا ينتهي؟
تعتري المصائب هذا الإنسان لتمحو من نفسه الخسة والدناءة، وتكسر الشر والكبرياء، وتفثأ الحدة والطيش؛ فلا يكون من حمقه إلا أن يزيد بها طيشا وحدة، وكبرياء وشرًا، ودناءة وخسة، فهذه هي مصيبة الإنسان لا تلك.
المصيبة هي ما ينشأ في الإنسان من المصيبة.
قال: ورددت الآية الكريمة في نفسي لا أشبع منها، وجعلت أرتلها أحسن ترتيل وأطربه وأشجاه؛ فكانت نفسي تهتز وترج كأنما هي تبدأ تنظيم ما فيها لإقرار كل حقيقة في موضعها بعد ذلك الاختلاط والاضطراب.
صبر النفس مع الذين يمثلون روحانيتها تمثيلا دائما بالغداة والعشي، وعلى نور الحياة وظلامها، يريدون وجه الله الذي سبيله الحب لا غيره من مال أو متاع.