للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لقد استوى في هذه الكآبة صغير همي وكبيره، وما أراني إلا قد أشرفت على الهلكة التي لا باقية لها، فإن وجهي المتكلح المتقبض يدل مني على أعصاب متحضرة نهكتها أمراضها ووساوسها، وإنما وجه الإنسان في قطوبه أو تهلله هو وجهه ووجه دنياه تعبس أو تبتسم.

وتالله لقد عجزت عن كفاح الدنيا بهذه الأعصاب المريضة الواهنة؛ فإن حبالة الصيد -صيد الوحش- لا تكون من خيط الإبرة! وأراني أصبحت كإنسان حجري ليس في طبيعته الالتواء إلى يمين الحياة ويسارها؛ ويخيل إلي من صلابتي أني الأسد، ولكني أسد من حجر، لا تفرض قوته الفرار منه على أحد!

قال أبو محمد: ورأيت نفسي في هذا الحوار كالميتة، لا تجيب ولا تعترض ولا تنكر، وكنت أظنها تراودني على الحياة أو تردني عن غوايتي؛ فملأني سكونها جزعا، وأيقنت أن الشيطان بيني وبينها، وأنه أخذ بمنافذها، فأردت الصلاة فثقلت عنها ورأيتني لا أصلح لها، بل خيل إلي أني إذا قمت إلى الصلاة فإنما قمت لأتهزأ بالصلاة!

وجعل الشيطان يأخذني عن عقلي ويردني إليه، ثم يأخذني ويردني، حتى توهمت أني جننت وكأنما كان يريد اللعين بقية إيماني يجاذبني فيها وأجاذبه، فلم ألبث أن مسني خبال وألقيت هذه البقية في يديه!

ثم أفقت إفاقة سريعة، فرأيت "المصحف" يرقبني قريب، فعذت به وعطفت عليه وقلت له: امنع الضربة عن قلبي. بيد أني أحسست أنه خصمي في موقفي لا ظهيري؛ كأني جعلته مصحفا عند زنديق، فكان كل إيماني الذي بقي لي في تلك اللحظة أني ضعفت عن حمل المصحف كما ثقلت عن الصلاة، فبقي الطاهر طاهرًا والنجس نجسا.

ولم تكن نفسي في ولا كنت فيها؛ وفرأيت الدنيا على وجه لا أدري ما هو، غير أنه هو ما يمكن أن يكون معقولا من تخاليط مجنون تركه عقله من ساعة: بقايا شعور ضعيف، وبقايا فهم مريض، تتصاغر فيهما الدنيا، ويتحاقر بهما العقل.

فملا انتهيت إلى هذا لم أعقل ما عملت وكانت الموسى قد أصابت من يدي عرقا ناشزًا منتبرًا، ففار الدم وانفجرت منه مثل الينبوع ضرب عنه الصخر فانشق فانبثق.

وتحققت حينئذ أنه الموت فنظرت فرأيت ...

<<  <  ج: ص:  >  >>