قال المسيب راوي القصة: وتجهم وجه الرجل فأطرق وسكت، وكان على وجهه شفق محمر فأظلم بغتة عندما قال:"فنظرت فرأيت".
وارتج المسجد بصيحة واحدة: فرأيت ماذا؟ رأيت ماذا؟
وبعثت الصحية أبا محمد فقال: رأيت ثلاثة وجوه أشرفت من المصحف تنظر إلي كالعاتبة، وكان أوسطها كالقمر الطالع، لو تمثلت آيات الجنة كلها وجهًا لكانته في نضرته وبشاشته، وغمغمت الوجوه الثلاثة بكلمات لم أسمع منها شيئا، ولكن نظرها إلي كان يؤدي لي معانيها، وكأنها تقول:"أكذلك المؤمن ... ؟ ".
ثم غابت وتخلت عني وبرزت ثلاثة وجوه أخرى، كأنها نقائض تلك، وأعوذ بالله من أوسطها، لو تمثلت آيات الجحيم كلها وجها لكانته في نكره وهوله، وخيل إلي أن الوجه الأصغر منها وجه سورة من سور المصحف، ففكرت، فوقع لي مما قام في نفسي من اللعنة أنها:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}[المسد: ١] .
وطمس الظلام هذه الرؤيا وتغيمت الدنيا، فأيقنت أن آثامي قد أقبلت علي ظلمة بعد ظلمة، والتمع شيء أحمر، فنظرت فإذا الدم يتخايل في عيني كأنه شعل تتلوى، فجزعت أشد الجزع، وحسبتها طرائق ممتدة لروحي تذهب بها إلى الجحيم.
وماتت كل خواطري بعد ذلك إلا فكرة واحدة بقيت حية تأكل في قلبي أكل النار، وهي:"كيف تجرأت فوضعت بيني وبين الله حمقي؟ ".
ويقولون: إن أختي قد رأتني أتشحط في دمي فصاحت، وجاء الناس على صوتها، وكان فيهم طبيب، فبعد لأي ما، استطاع حبس الدم، واحتال حيلته حتى أسف الجرح دواء وضمده؛ فجعلت أثوب نفسا بعد نفس، وراجعت قليلًا قليلًا.
ثم طافت الحياة على عيني ففتحتها، فإذا الأشياء تبدو لي وليس فيها حقائق ولا معان، كأنها تتخلق جديدة تحت بصري، وكأنها خارجة لساعتها من يد الله!
وتماثلت شيئا بعد ساعات، فأحسست أن نفسي قد رجعت إلي ساخرة مني تقول: كيف رأيت عمل العقل أيها العاقل؟
وبدأت الحياة تتجدد، فأقسمت بيني وبين نفسي أن أجدد إيماني بالله، ولم أكد أفعل حتى أحسست أن قوة الوجود كلها مستقرة في روحي، وخيل إلي أني أنا وحدي القوي على هذه الأرض قوة جبالها وصخورها، على حين كان جسمي ممددا كالميت لا يتماسك من الضعف!