للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لكزها برجله أسفل بطنها فانقلبت، وأصاب رأسها إجانة١ العجين فتثلم تثليم الإناء كأنما شدخ ضربا بحجر، دماغها على الأرض أمام عيني، ورأيتها لم تزد على أن دفعت بإحدى يديها في الهواء، وضمت بالأخرى إلى صدرها، تتوهم أنها تحميني وتدفعه عني؛ ثم سكنت، ولو لم تمت من الشجة في رأسها لماتت من الضربة في بطنها.

قال المسيب: وأطرق الفتى هنيهة وأطرق الناس معه؛ فرفع مجاهد صوته وقال: رحمها الله! فقال الناس جميعا: رحمها الله.

ثم قال الفتى: وكان عامة من في المجلس يعرفون ذلك مني، ويعرفون أنه لو ساغ لإنسان أن يشرب دم أمه ما شربت أنا الخمر، فقالوا للمغنية: إن هذا لا يدخل في ديواننا٢ فنظرت إلي، وهربت أنا من نظرتها بإطراقة؛ ثم قالت: تشرب على وجهي؟ فقلت لها: إن وجهك يقول لي: لا تشرب, فتضاحكت وقالت: أهو يقول لك غير ما يقول لهؤلاء؟ فهربت من كلامها بإطراقة أخرى، ووصلت الإطراقتان ما بيني وبين قلبي؛ وتنبه فيها مثل حنو الأم على طفلها إذا آذته بلسانها فأطرق ساكتا يشكوها إلى قلبها!

والتفتت لمن حضر وقالت لهم: لست أطيب لكم ولا تنتفعون بي إلا أن تشربوا لي وله ولأنفسكم، وانحط عليهم الساقي، فشربوا أرطالا وأرطالا، وهي بين ذلك تغنيهم وقد أقبلت عليهم وخلا وجهها لهم من دوني تخالسني النظرة بعد النظرة.

فوسوس لي شيطاني أن تشدد مع هذه بمثل عزمتك مع الخمر فإنما هما شيء واحد، ولكني كنت أحد النظر إليها، فمرة أوامقها نظرة المحب للحبيب، ومرة أغضي عنها بنظرة لا تنظر؛ وكأني بذلك كنت آخذها وأدعها، وأصلها وأهجرها. فقالت لي كالمنكرة علي: ما بالك تنظر إلي هكذا؟ ولكن هيئة وجهها جعلت المعنى: لا تنظر إلي إلا هكذا!

وأسرع الشراب في القوم وأفرط عليهم السكر؛ فبقيت لي وحدي وبقيت لها وحدها؛ ثم تناولت عودها وضمته إليها ضما شديدا أكثر من الضم, وألمسته


١ هي ما يعجن فيه العجين وتغسل فيه الثياب، وقد يوضع فيها الماء ليتوضأ منه، وتتخذ من حجر أو خزف أو غيرهما.
٢ تعبير قديم كانوا يريدون به الشرب كأنه ديوان ملك.

<<  <  ج: ص:  >  >>