صدرها، ونهديها، ثم رنت إلي بمعنى، فما شككت أنها ضمت لي أنا والعود، ثم غنت هذا الصوت:
ألا قاتل الله الحمامة عدوة ... على الغصن ماذا هيجت حين غنت
فما سكتت حتى أويت لصوتها ... وقلت ترى هذه الحمامة جنت
وما وجد أعرابية قذفت بها ... صروف النوى من حيث لم تك ظنت
إذا ذكرت ماء العضاه وطيبه ... وبرد الحمى من بطن خبت أرنت
بأكثر مني لوعة غير أنني ... أجمجم أحشائي على ما أجنت
وغنته غناء من قلب يئن، وصدر يتنهد، وأحشاء لا تخفي ما أجنت؛ وكانت ترتفع بالصوت ثم كأنما يهمي الدمع على صوتها، فيرتعش ويتنزل قليلا قليلا، حتى يئن أنين الباكية، ثم يعتلج في صدرها مع الحب، فيتردد عاليا ونازلا، ثم يرفض الكلام في آخره دموعا تجري.
قال المسيب: فنظر إلي مجاهد وقال: عدوة الجنة -والله- هذه يا أبا محمد، لا تقبل الجنة من يكون معها، تقول له: كنت مع عدوتي!
ثم قال الفتى: وكان القوم قد انتشوا، فاعتراهم نصف النوم وبقي نصف اليقظة في حواسهم، فكل ما رأوه منا رأوه كأحلام لا وجود لها خلف أجفانهم المثقلة سكرا ونعاسًا، ووثبت المغنية فجاءت إلى جنبي والتصقت بي، وأسرع الشيطان فوسوس لي: أن احذر فإنك رجل صدق، وإذا صدقت في الخمر فلا تكذبن في هذه، ولئن مسستها إنها لضياعك آخر الدهر!
فعجبت أشد العجب أن يكون شيطاني أسلم وأعنت عليه كما أعين الأنبياء على شياطينهم. ولكن اللعين مضى يصدني عن المرأة دون معانيها، وكان مني كالذي يدني الماء من عيني القتيل المتلهب جوفه ثم يجعله دائما فوت فمه، ولقد كنت من الفحولة بحيث يبدو لي من شدة الفورة في دمي وشبابي أن أجمع في جسمي رجلا عدة، ولكن ضربني الشيطان بالخجل فلم أستطع أن أكون رجلا مع هذه المرأة.
وعجبت هي لذلك وما أسرع أن نطق الشيطان على لسانها بالموعظة الحسنة! فقالت أحببتك ما لم أحب أحدًا، وأحببت خجلك أكثر منك، فما يسرني