ودخلت أعودها فرأت كأنني آت من الدنيا, وتنسمت مني هواء الحياة، كأنني حديقة لا شخص!
ومن غير المريض المدنف، يعرف أن الدنيا كلمة ليس لها معنى أبدًا إلا العافية, من غير المريض المشفي على الموت، يعيش بقلوب الناس الذين حوله لا بقلبه؟
تلك حالة لا تنفع فيها الشمس ولا الهواء ولا الطبيعة الجميلة، ويقوم مقام جميعها للمريض أهله وأحباؤه!
وكان ذووها من رهبة القدر الداني كأنهم أسرى حرب أجلسوا تحت جدار يريد أن ينقض! وكانت قلوبهم من فزعها تنبض نبضا مثل ضربات المعاول.
وباقتراب الحبيب المحتضر من المجهول، يصبح من يحبه في مجهول آخر، فتختلط عليه الحياة بالموت، ويعود في مثل حيرة المجنون حين يمسك بيده الظل المتحرك ليمنعه أن يذهب وتعروه في ساعة واحدة كآبة عمر كامل، تهيئ له جلال الحس الذي يشهد به جلال الموت!
وحانت ساعة ما لا يفهم، ساعة كل شيء، وهي ساعة اللاشيء في العقل الإنساني! فالتفتت العروس لأبيها تقول:"لا تحزن يا أبي", ولأمها تقول:"لا تحزني يا أمي".
وتبسمت للدموع كأنما تحاول أن تكلمها هي أيضا، تقول لها:"لا تبكي! " وأشفقت على أحيائها وهي تموت، فاستجمعت روحها ليبقى وجهها حيا من أجلهم بضع دقائق! وقالت:"سأغادركم مبتسمة فعيشوا مبتسمين، سأترك تذكاري بينكم تذكار عروس".
ثم ذكرت الله وذكرتهم به، وقالت "أشهد أن لا إله إلا الله". وكررتها عشرا! وتملأت روحها بالكلمة التي فيها نور السماوات والأرض، ونطقت من حقيقة قلبها بالاسم الأعظم الذي يجعل النفس منيرة تتلألأ حتى وهي في أحزانها.
ثم استقبلت خالق الرحمة في الآباء والأمهات وفي مثل إشارة وداع من مسافر انبعث به القطار، ألقت إليهم تحية من ابتسامتها وأسلمت الروح!
٤- يا لعجائب القدر! مشينا في جنازة العروس التي تزف إلى قبرها طاهرة