ألمانيا لتفاوت خلقه وعنجهيته؛ وجلست أنفس عن صدري، ثم أقبلت أسخر من إبليس ونكايته، وجعلت أتعجب مما اتفق من هذا التدبير.
وتحرك القطار وانبعث، وكان الأوروبي إلى جانبي مما يلي النافذة وقد تركها مفتوحة، فأحسست الهواء ينصب منها كالماء البارد وأنا متند بالعرق؛ وترقبت أن يغقلها الرجل فلم يفعل، فصابرته قليلا فإذا هو ساكن مطمئن يتروح بالهواء وكأنما يشربه، وتأملته فإذا شيخ في حدود الستين أو فوقها، غير أنه على بقية من قوة مصارع في اكتناز عضله واجتماع قوته ووثاقة تركيبه، فأيقنت أن الهوء من حاجته، وهممت أن أنبهه أو أقوم أنا فأغلق النافذة، ولو شئت أن أفعل ذلك فعلت، غير أن الشيطان "أخزاه الله" وسوس لي: أن هذا رجل أجنبي غربي، وأنت مصري شرقي، فلا يحسن بك أن تعلمه وتعلم الحاضرين أمامكما أنك أنت الأضعف على حين أنه هو الأسن، وكيف لا تقوم لما يقوم له وقد كنت تباكر الماء البارد في صميم الشتاء، وكنت لا تلبس في أشد أيام البرد غير ثياب الصيف، وكنت تحمل كذا وكذا ثقلا للرياضة، وتعاني كذا وكذا من ضروب القوة، وكنت تلوي بيديك عود الحديد، وكنت وكنت.
فتذممت -والله- مما خطر لي؛ وأنفت أن أنبه الرجل، ورأيت عملي هذا ضعفا وفسولة، ولم أعبأ بالهواء ولا بالعرق ولا بالنزلة الشعبية ولا بالزكام، وتركت الأوروبي وشأنه، وأقبلت على كتاب كان في يدي، وتناسيت أن هذه النافذة جهة من تدبير إبليس؛ وكان القطار مزدحما بالراجعين من المعرض الزراعي الصناعي، وبعض الناس وقوف فلا مطمع في مكان آخر.
ولبثت ساعة ونصف ساعة في تيار من هواء "فبراير" ينصب انصبابا، ويعصف عصفًا، وكأني أسبح منه في نهر تحت ظلمة الليل الماطر، والناس معجبون بي وبالأوروبي، وهذا الأوروبي معجب بي أكثر منهم، وقد رأى مكاني وعرف موضعي، وكان إلى يميني مجلس بقي خاليا ولم يقدم أحد على أن يجلس فيه خوفا من الهواء ومن الرجل الأوروبي.
ثم تراءيت أنوار محطة "طنطا"، ولم يبق من هذه المحنة غير دقيقتين فوالله الذي لا يحلف بغير اسمه -عز وجل- لقد كان إبليس رقيعا جلفا باردا ثقيل المزاج؛ إذ لم أكد أتهيأ للقيام حتى رأيت الرجل الأوروبي قد مد يده فأغلق النافذة.