للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على الأرض تستطير الأرانب فزعًا؛ فينفرن إلى أجحارهن ويتهاربن، وما كانت أبيات الشعر في ذهني إلا أرانب.

أنتم لا تعرفون أن من كان حصيفا ثبيتا مثلي، كان دقيق الحس؛ ومن كان فدما غبيا مثل هذا، كان بليد الحس غليظا كثيفًا؛ فإذا أنا استشعرت البرد رأيتني قد سافرت إلى القطب الشمالي؛ أما هذا المجنون فهو إذا استشعر بردا سافر إلى عباءته أو لحافه ... إذ هو لا يعرف جغرافيا، ولا يدري ما طحاها.

قلت: هذا منك أظرف من نادرة أبي الحارث. قال: وما نادرة أبي الحارث؟ وهل هو نابغة؟

قلت: جلس يتغدى مع الرشيد وعيسى بن جعفر، فأتي بخوان عليه ثلاثة أرغفة، فأكل أبو الحارث رغيفه قبلهما، والرشيد ملك عظيم, لا يأكل أكل الجائع، وإنما هو التشعيث من هنا وهناك؛ فكان رغيفه لا يزال باقيا؛ فصاح أبو الحارث فجأة: يا غلام، فرسي. ففزع الرشيد وقال: ويلك ما لك؟ قال: أريد أن أركب إلى هذا الرغيف الذي بين يديك ...

قال "النابغة": ولكن فرقا بين أبي الحارث وبين "نابغة القرن العشرين"، فإن من العجائب أني ربما نظرت إلى الرجل وهو يأكل فأجد الشبع، حتى كأنه يأكل ببطني لا ببطنه، ولكن من العجائب أن هذا لا يتفق لي أبدا حين أكون جائعا ...

أما هذا المجنون الذي أمامنا، فربما أبصر الحمار على ظهره الحمل، فيشعر كأن الحمل على ظهره هو لا على ظهر الحمار.

قال الآخر: "مما حفظناه" أنه سرق لأعرابي حمار، فقيل له أسرق حمارك؟ قال: نعم، وأحمد الله. فقيل له: على ماذا تحمده؟ قال: على أني لم أكن عليه حين سرق ... فأنا إذا رأيت حمارًا مثقل الظهر، حمدت الله على أن الحمل لم يكن علي، لا كما يقول هذا. ثم دق برجله دقات ...

فاستشاط "النابغة" وقال: أسمعتم كيف يقول إني مجنون، ثم لا يكتفي بهذا بل يقول إني حمار على ظهره الحمل؟

قلت: ينبغي أن تتكافا، وهذا لا يعيبك منه ولا يعيبه منك، فإن من تواضع "النوابغ" أن يشعروا ببؤس الحيوان، فإذا شعروا ببؤسه دخلتهم الرقة له، فإذا دخلتهم الرقة صار خيال الحمل حملا على قلوبهم الرقيقة؛ وقد يصنعون أكثر من ذلك: حكى الجاحظ عن ثمامة قال: كان "نابغة" يأتي ساقية لنا سحرًا؛ فلا يزال

<<  <  ج: ص:  >  >>