للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ورضي "النابغة" عن صاحبه وقال له: لئن كانت فيك ضعفة إن فيك لبقية تعقل بها ... ثم أخذ منه الرسالة ودسها في ثوبه. قلنا: ولكن ألا تفضها لنعرف ما فيها؟

فضحك وقال: أئن جاريتكم في باب المطايبة والنادرة، وجاريت هذا الأبله في باب جنونه وحمقه تحسبون أن الأمر على ذلك، وأن الرسالة فارغة إلا من عنوانها، وأن نابغة القرن العشرين هو أرسلها إلى نابغة القرن العشرين، كما قال سعد باشا: "جورج الخامس يفاوض جورج الخامس"؟ لحق -والله- أن العقل الكبير الذي يأبى الصغائر، هو الذي تأتي منه الصغائر أحيانا لتثبت أنه عقل كبير، وهكذا تسخر الحقيقة من كبار العقول "كنابغة القرن العشرين" ...

فغضب المجنون الآخر وهم أن يتكلم, فقال له "النابغة": أنت كاذب فيما ستقوله.

قلنا: ولكنه لم يقل شيئا بعد، فكما يجوز أن يكون كاذبا يجوز أن يكون صادقا.

قال: وسيخطئ في رأيه الذي يبديه.

قلنا: ولم يبد شيئا من رأيه.

قال: ولا يعرف الحقيقة التي سيتكلم عنها.

قلنا: ويحك، أدخلت في عقل الرجل أم تعلم الغيب؟

قال: لا هذا ولا ذاك، ولكنه قياس منطقي يتوهم اطراده. إنه سيقول: إني مجنون ...

فأخرج الآخر لسانه ... قال "النابغة": تبا لك، لقد رأيت الكلمة في لسانك كأنها مكتوبة بحروف المطبعة. ويحك يا مرقعان١، ألا تعرف أن لك دماغا مخروقا تسقط منه أفكارك قبل أن تتكلم بها، ولولا أنه مخروق لحفظت المتن! إن كل تخطئة لي منك هي اعتراف لي منك بصواب.

فنظر الآخر إليه نظرة كان تفسيرها في حواجبه، إذ مط حواجبه٢ ورقصها. فقال "النابغة": ونظراته خبيثة ملحة الطعم، مزعوقة كماء البحر المر أخذ من البحر وأضيف إلى ملحه الطبيعي ملح، أكاد أتهوع من هذه النظرة فأقيء.

الآن فهمت معنى قولهم: "ملحة في عين الحسود". فإن الملح لا يغلبه إلا الملح، كالحديد بالحديد يفلح، هاتوا كأسا من معتقة الخمر، ثم لينظر فيها


١ المرقعان والمرقع: الأحمق الذي يتمزق عليه رأيه فلا يجتمع له.
٢ هما حاجبان. ولكن هذا الأسلوب هو الأفصح هنا، وهو كثير في العربية.

<<  <  ج: ص:  >  >>