للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إنه طفل عمره ثلاثون سنة وفيه دائما غضب الطفل ونزقه وحماقته، وفيه كذلك سرور الطفل وطيشه وأحلامه؛ غير أنه ليس فيه عقل الطفل ... وهو من الضعف، وشدة الحاجة إلى العناية في حياطته وسياسته والبر به كطفل صغير بحيث يخيل إلي أحيانا أنني أمه.

قلنا: وتنسى في هذه الحالة أنك رجل؟

قال: وأنتم كذلك تتهمونني بالنسيان، وهو شرعا جهة ملزمة للحكم بالجنون فما النسيان إلا الكلمة الأخرى لمعنى ضعف العقل؛ وضعف العقل هو اللفظ الآخر لمعنى جنوني؛ وقد أعلمتكم ما أكره من الكلام.

قلت: لا، النسيان لا يكون منك نسيانا بمعناه في المجانين، بل بمعناه فيك أنت من تواثب الأفكار النابغة وتزاحمها في تواردها على العقل، فإذا تواثبت وتزاحمت كان أمرها إلى أن ينسى بعضها بعضا، فلا ينطلق منها إلا القوي النابغ حق نبوغه، فيجيء كالمنقطع مما قبله؛ فيحسب ذلك نسيانا وما هو به. وقد تصطلح الأفكار في هذه المعركة الذهنية إذا كان النابغة مسرورًا محبورا يرقص طربًا ... فيكون أمرها إلى أن تجيء كلها معا على اختلاف معانيها وتناقضها؛ فيحسب ذلك ضربا من الذهول عند من يجهل العلة "النبوغية"؛ وعذره جهل هذه العلة، وهي في دلالة العقل ليست نسيانا ولا ذهولا.

قال: فأعلمني كيف نسيان المجانين، فقد خفي على أن أدرك هذا الأمر العجيب فيهم، ولست أدري كيف يفوتهم ما استدنى لهم من الفكر بعد أن يكون قد استقر وحصل في عقولهم؟

قلت: لا يكون النسيان تهمة بالجنون إلا في أحوال ثلاث، جاءت بكلها الرواية الصحيحة المحفوظة:

فأما الأولى: فما يروى عن رجل كان سريا غنيا وعمر حتى أدركه الخرف؛ فجاءه كاتبه يوما يستعينه على تجهيز أمه وقد ماتت، فدفع إلى غلام له دنانير يشتري بها كفنا، ودنانير أخرى يتصدق بها على القبر، ثم قال لغلام آخر؛ امض إلى صاحبنا وغاسل موتانا فلان فادعه يغسلها. قال الكاتب: فاستحييت منه وقلت: يا سيدي ابعث خلف فلانة وهي جارة لنا تغسلها. قال: يا فلان: ما تدع عقلك في حزن ولا فرح. كيف ندخل عليها من لا نعرفه؟

قال الكاتب: نعم تأذن بذلك. قال: لا -والله- ما يغسلها إلا فلان.

<<  <  ج: ص:  >  >>