فذهب إلى الصحراء فإذا هي قائمة في صلاتها، ونظر إلى الغنم فإذا ذئب يدلها على المرعى وذئب يسوقها. فملا فرغت من صلاتها سلم عليها فأنبأته أنه زوجها في الجنة وأنبأها أنه بشر بها؛ ثم سألها ما هذه الذئاب مع الأغنام؟ قالت: نعم أصلحت شأني بيني وبينه فأصلح بين الذئب والغنم.
قال "النابغة": هذا كذب لأنه عجيب، وهو عجيب لأنه كذب.
قلت: وأي عجيب في هذا؟ إن الذئب والشاة، والأسد والغزال، والثعبان والعصفور، وكل آكل ومأكول من الأحياء، لو هي دخلت في دائرة الصلاة الحقيقية لانتظمت كلها صفا واحدًا يركع ويسجد. فهذه الجارية نشرت روح الصلاة والتقوى على كل ما حولها من قلبها الطاهر المطمئن بالإيمان فوقع الذئب منها في دائرة مغناطيسية، فسلب وحشيته ورجع مسخرًا لفكرة الصلاح والخير إذ تجانست فيه الحياة بما حولها، وانسجم النوع والنوع في حركة متجاوبة انسجام الرجل المغناطيسي هو ومن ينومه في إرادة واحدة وفكرة واحدة.
قال "النابغة": فإذا دخل الذئب مسجدًا يرتج بالمصلين، أتراه يصف أربعته ويقف بينهم للصلاة، أم يصلي صلاته الذئبية في لحومهم؟
قلت: وأين هم الذين يصلون بحقيقة الصلاة، فيخرجون بها من النفس إلى الكون، ومن الزمن إلى الأبد، ومن الأسباب إلى مسببها، ومما في القلب إلى ما فوق القلب؟ إن هؤلاء جميعا يصلون بجوارحهم وبينهم وبين أرواحهم طول الدنيا وعرضها؛ وما منهم إلا من يتصل فكره بما يغلب عليه، كما يتصل فكر اللص بيده، وفكر العاشق بعينه، وفكر الطفيلي بمعدته. فاسمها عندهم الصلاة، وحقيقتها عند الله كما ترى.
قال "النابغة": ولكنه ذئب من طبيعته أن يأكل الشاة لا أن يرعاها، فلا أفهم شيئا.
وقال الآخر:"مما حفظناه" رتع الذئب في الغنم، ولم يقولوا صلى الذئب في الغنم، فلا أفهم شيئا.
قلت: سأزيدكما عدم فهم ... إن قلب تلك المرأة العظيمة الطاهرة متصل بالله، وليس فيه شيء من طباعها الإنسانية ولا ظل من ظلال الدنيا؛ وقد تجلى فيه سر الحياة، وهو السر الذي لا يطعم ولا يشرب ولا يلبس ولا يشتهي ولا يطمع